د.محمد العبادي ||
في التاريخ الإسلامي يوجد كثير من الحقائق التي لم يرفع عنها برقع الظلام، وتحتاج إلى تحقيق وتدقيق ، وادعو أصحاب الأقلام الحرة لإماطة اللثام عنها، ومن ذلك ما قيل واُشيع من قبل الأمويين بأن عبدالرحمن بن ملجم كان خارجياً ليضربوا عصفورين بحجر واحد في التخلص من العلويين والخوارج،وقد كان لهم ما أرادوا.
ماكنة الدعاية الإعلامية الأموية التي جعلت من علي بن أبي طالب الذي تربى في بيت النبوة على يد محمد النبي وزوجته خديجة الكبرى ،تلك الماكنة الإعلامية الخبيثة جعلت من علي عليه السلام لايصلي وصدّقها الناس،ورغم ذكره الكثير للموت وإعراضه عن الدنيا؛صورته تلك الدعاية ان فيه دعابة وصاحب لهو (عجباً لابن النابغة يزعم لأهل الشام أنّ فِيّ دُعابة وأني امرؤ تلعابة أعافس وأمارس لقد قال باطلاً ونطق آثماً...)(١).
وقد لعب الجهل والأهواء دورهما في قلب الحقائق التي ساقها المغرضون.
ويالدعابة القدر السمجة أن يسنوا سنة سيئة في سبِّ علي من على منابر المسلمين وهو القائد المقصى الذي تجمعت فيه الفضائل .
ما يثير الريبة ان فصول حياة ابن ملجم لم يتعرض لها أصحاب التراجم والسير وبقيت سيرته مبهمة،وهو ما انعكس على تحديد هويته الحقيقية .
عند النظر في النتف التاريخية تجد ان عبدالرحمن بن ملجم كان قد شهد فتح مصر مع عمرو بن العاص ،وكانت له علاقة وثيقة به بحيث كان قد قرّب منزله ونزوله منه ،وكانت هناك توصية خاصة به من قبل الخليفة عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص وذكره بالإسم .
الرواية تقول :كان عمرو بن العاص قد شعر بالحاجة إلى وجود معلم ومرشد ؛فبعث برغبته تلك إلى الخليفة عمر ،ليسهل له حل ما أشكل من القرآن فأوصاه ان يلجأ في ذلك إلى عبدالرحمن بن ملجم في قراءة القرآن وتعلّم الفقه!( إن عمر كتب إلى عمرو : أن قرّب دار عبدالرحمن بن ملجم من المسجد ليعلم الناس القرآن والفقه.فوسع له مكان داره)(٢).
وهنا يأتي السؤال إذا كان ابن ملجم قد شهد فتح مصر، وكان من بطانة عمرو بن العاص وعشيراً له ،وكان له حظوة عنده فوسع داره، ومنزله قريب من منزل عمرو بن العاص فهل من المعقول أن يتفق مع اثنين من الخوارج احدهما يريد إغتيال عمرو بن العاص صديقه وجاره القديم الذي أجرى له العوائد ؟!( فقال عبدالرحمن بن ملجم انا لكم بعلي بن أبي طالب ،وقال البُرك وأنا لكم بمعاوية،وقال عمرو بن بكير أنا اكفيكم عمرو بن العاص فتعاهدوا على ذلك وتعاقدوا وتواثقوا...)(٣).
بتصوري ان الرواية آنفا فيها حشو إعلامي لصرف الأنظار عن القاتل الحقيقي، والجهات التي حركت ابن ملجم وشحنته ليأتي من مكة إلى الكوفة لتنفيذ عملية الإغتيال بالنيابة .
هناك ملاحظة أخرى يمكن لها أن تساعدنا في الكشف عن إتجاهه وهويته ،وهي متابعة حركة ابن ملجم أثناء دخوله إلى الكوفة حيث نشاهد أنه ذهب إلى كندة وهي محلة معروفة بالكوفة،ولم تكن لأبناء هذه القبيلة علاقة بالخوارج ؛ بل اكثر أفرادها من أصحاب الهوى والولاء الأموي وفي هذه القبيلة عمال وأمراء وقادة يعملون تحت ملك بني أمية،وعبدالرحمن بن ملجم محسوباً عليها ،وقد ذكر ابن سعد في طبقاته جذر ابن ملجم النسبي والتحالفي حيث يرجع إلى كندة،فقد قال في تعريفه:( عبدالرحمن بن ملجم المرادي وهو من حمير ،وعداده في مراد وهو حليف بني جبلة من كندة)(٤).
ولكونه من كندة لم يكن ابن ملجم غريباً على مسالك الكوفة أو يطوف في طرقها طويلاً ؛ وإنما ذهب إلى بني جلدته من قبيلة كندة .
وحلّ ابن ملجم ضيفاّ على الأشعث بن قيس الكندي والذي كان اموي المشرب وقد استعمله عثمان على أذرييجان ، وكانت شخصيته متقلبة بل كان جاسوساً وعيناً لبني أمية في الكوفة وقد اشترك الأشعث في معارك اليرموك بالشام، وشهد القادسية والمدائن وقد كان هذا الأخير ينفذ الخطة المتممة لخديعة رفع المصاحف في صفين حيث ألزم الإمام أمير المؤمنين بالتحكيم (٥)،وفوق ذلك أبى إباءً شديداً على أمير المؤمنين ان يستعين أو يُحكم عبدالله بن عباس (فأراد علي ان يُحكم عبدالله بن عباس مع عمرو بن العاص،فأبى الأشعث بن قيس ...)(٦).
لقد كان الأشعث متوافقاً تماماً مع ما يريده معاوية وقرينه ابن العاص، واحدث شرخاً كبيراً في جيش الإمام علي عليه السلام في وقعة صفين، وكان يعمل لتأمين مصالح بني أمية أو هو يعمل في ضمن خطة العدو .هذه هي حقيقة الرجل الذي أسلم في السنة العاشرة للهجرة وقبل وفاة النبي بشهور .
على كل حال فقد ذهب ابن ملجم إلى الأشعث بن قيس وحرضه الأخير على قتل أمير المؤمنين عليه السلام ،وقد ذكر ابن سعد وتبعه ابن الأثير مايشير إلى ذلك بوضوح :( وبات عبدالرحمن بن ملجم تلك الليلة التي عزم فيها ان يقتل علياً في صبيحتها يناجي الأشعث بن قيس الكندي في مسجده حتى كاد أن يطلع الفجر .فقال له : فَضَحك الصبح فقُم ...)(٧).
ان الأشعث بن قيس وولده محمد معروفون بولائهم للبيت الأموي
ولتلك الجماعة من قريش التي كانت ألباً دائماً للبيت العلوي،وقد أشار أمير المؤمنين إلى ذلك العداء المستحكم فيهم من خلال بيتين من الشعر:
( تلكم قريش تمناني لتقتلني ...فلا وجدك مابروا وما ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمّتي لهم...بذات روقين لايعفوا لها أثر )(٨).
إن بصمة الخط الاموي واضحة في إغتيال أمير المؤمنين عليه السلام، ورغم وجود ركام كثير من الروايات وتكوّم غبارها على الحقيقة، لكنها تتجلى للأبصار عند التدقيق فيها .
الامويون هم المستفيدون من قتل أمير المؤمنين عليه السلام ،ولِمَ لا يكون ذلك ،وهم أصحاب خبرة طويلة متراكمة في عمليات القتل والإغتيال،وقد عملوا بعد إستشهاد الإمام علي عليه السلام على تصفية خصومهم أو تهجيرهم قسراً إلى البلاد البعيدة وغير ذلك .
-------------------------------
١- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة،ج٦ص٢٨٠.
٢- ابن يونس الصدفي المصري،تاريخ ابن يونس المصري،ج١ص٣١٤-٣١٥.
٣- ابن سعد ،الطبقات الكبرى،ج٣ص٢٦.
٤- المصدر نفسه،ج٣ص٣٥.
٥- أنظر: ابن الأثير الجزري،اُسد الغابة ،ج١ص١١٨.
٦- ابن سعد،الطبقات الكبرى،ج١ص٦٨١.
٧-ابن سعد ،الطبقات الكبرى، ج٣ص٢٦؛ ابن الأثير الجزري،اُسد الغابة،ج٣ص٦١٧.
الصفدي،الوافي بالوفيات،ج٢١ص١٨٣.
ـــــــ
https://telegram.me/buratha