خالد غانم الطائي ||
سنحت لي فرصة اكمال دراستي العليا في احدى الدول فأصطحبت زوجتي واطفالي وسافرت على أمل نيل الشهادة والعودة إلى احضان وطني الحبيب ـ العراق ـ لاسخر طاقاتي لخدمته...
ذلك البلد الذي وطئت اقدامنا ارضه كان على مستوى عالٍ من التطور في الجانب المادي والعلمي والتقني والتكنلوجي والدراسي وبالرغم من توفير مستلزمات العيش الرغيد الهانئ والتنعم بالمأكل والمشرب والمسكن والكسوة ووسائط النقل والاتصالات والخدمات الضرورية والعمران المتطور والبنى التحتية السائرة بخطى واثقة إلى الأمام ومع مواصلة دراستي وتفوقي فيها على اقراني.
إلا ان الايام تمر ثقيلة وباهتة لا طعم فيها مثل الطير المحبوس في قفص جميل مكفي المؤونة في الطعام والشراب إلا انه يرمق اغصان الاشجار بنظرة الاشتياق للعودة لها والوقوف عليها..
وكأن الغربة صالة انتظار كبيرة فيها احساس بالملل والضجر فمع شروق الشمس وولادة يوم جديد وتجدَّد الأمل مع الشروق ورغم جمال الطبيعة فالجبال متجاورة والشلالات تتحادر منها لتعزف بخريرها معزوفة الحياة وكأنها لوحة ربانية رائعة الجمال ـ وما اكثر اللوحات الربانية ـ الا انني اتمنى ان ابصر الشمس تبزغ في وطني مهد الحضارات والانبياء والاوصياء والاولياء والصالحين فتربته تحتضنهم ويعبق الهواء بأريج بركاتهم وكأني شجرة نُقلت من منبتي إلى ارض اخرى.
ينتابني ـ آنذاك ـ شعور بالغربة والمرارة واللوعة والحرقة والحزن في داخلي مع افتقاد الاواصر والروابط الاجتماعية في بلد لم اولد على ارضه، فالشمس على عظمتها تصفَّر من الم الفراق.. فكيف بيَّ!!؟ وبعد غروبها يتناهى إلى مسامعي نداء تحملهُ الرياح وكأن العراق يناديني اين انت يا ولدي؟ أتُراك نسيتني؟! فأعتصر في داخلي ألماً وضجراً ووحدةً مع كثرة الناس القاطنين في تلك الدولة.. فقلبي مُعلَّق ببلدي وجذوري نابتةٌ في ارضه ومرارة الرحيل لا تُزيلها الأيام ولوعة قلبي مُتقدةٌ ليل نهار.. ثم بعد ان تجتمع عائلتي امام شاشة التلفاز نترقب اخبار وقنوات بلدنا ونتابعها لنستشعر بلذيذ لهجتنا وجمال عباراتنا ونقف عند شئونه وقضاياه وبعد ان تُطبق الجفون وتهدأ العيون وتغلق ا لناس ابوابها.. اراك (يا عراق) في منامي واشم عبيرك وأرى جيراني واحبائي واقربائي وتلك الايام الخوالي العابقة بأزكى الذكريات...
. ثم اصحو وكم تمنيت ان يطول منامي لترفرف روحي في بلدي فقد هاجرت إليه من دون جواز سفر أو تأشيرة.. ويوم جديد هو توأم لاخيه الفائت... احساس بالخيبة ورغم شروق الشمس إلاَّ ان ظلام الغربة لم ينقشع ولم يتبدد وقد يكون النهار اشد وحشةً وانا احتضن ولدي إلى صدري اسمع دقات قلبه تنادي.. يا عراق... يا عراق... واقرأ في عينيه حنيناً واشتياقاً ملتهباً في جوانحه لا يخمد.. لا يزول ورغم الاطلاع على عادات وتقاليد الآخرين واحوال المجتمعات إلا ان الشعور بأنتفاء الانتماء للمدينة كان قائماً....
. انها تجربة قاسية وضريبة استقطاع من العمر فأيام الغربة لا احسبها من عمري واضعها بين قوسين الأول فراق والثاني مر.
وبعد انقضاء سنوات الدراسة و خالد غانم الطائيوبلغتُ الهدف المنشود سارعت إلى الاعداد والتحضير للسفر والرجوع إلى بلدي لم ارد ان التفت إلى الخلف وانا اتجه (مع عائلتي) إلى المطار، فقط اردت ان ابصر طريقي وبعد ان جلسنا على المقاعد المخصصة لنا (في الطائرة) ثم اقلعت وانا اقول في نفسي انطلقي بسرعة اعلى واجعليني بين ذراعي وطني ليحتضنني.. ومر شريط الايام والسنين كأنه حُلم وارى الابتسامة على وجوه افراد عائلتي...
وما ان وطئت اقدامنا ارض ابائي واجدادي حتى سجدتُ لله شكراً وعفرَّتُ خديَّ من ترابها وانهمرت دموعنا فرحاً وشوقاً وابتلت الأرض من فيض مشاعري وكأن الأرض تخاطبني: أهلاً بكم يا اولادي.. وقد استقبلنا الاهل والأحبة وكان بحق عرسُ جميل مطرز بالفرح ويعلو فيه صوت (الزغاريد) والانشراح والاستبشار وطلاقة الوجوه كانت ابلغ لغة للتعبير عن الفرح.. لقد كانت العودة للوطن ولادة ثانية وبدأ عمر جديد..
فيا ايها المهاجرين عودوا إلى وطنكم العراق فهو محتاج لجميع ابنائه
قال الشاعر: بلادي وان جارت عليَّ عزيزة
وقومي وان شحوا عليَّ كرام
وختامه مسك قول النبي الاعظم الاقدس الاكرم (صلى الله عليه وآله)
(حُب الوطن من الأيمان).
ــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha