م. د زينب السوداني ||
إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو القدوة والأسوة الحسنة لعموم المسلمين في كل زمان ومكان استناداً إلى قوله تعالى: } لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً { وعند دراسة سيرته (صلى الله عليه واله وسلم) ، تكتشف أنها تضرب مثلاً رائعاً في الاعتدال بإطاره العام والسياسي، فهو(صلى الله عليه واله وسلم)، يحذر من اعتماد منهج التطرف والعصبية بكل أشكاله من خلال أحاديثه الشريفة، فقد ورد عنه قوله: « من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه» وقوله: « من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية»وقوله: « يا أيها الناس إياكم والغلوَّ في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» وهذا المنهج النبوي الرافض للتطرف بكل مظاهره وصوره، جعله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحث المسلمين على الرفق في الدعوة إلى الدين، والتزام منهج الاعتدال في العبادة، كما في قوله: « إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغضن إلى نفسك عباده الله.. » وأن يكونوا دعاة خير ميسرين ومبشرين، كما في قوله عليه السلام: « إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» ، وقوله: « إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلماً ميسراً » وقوله: « ما من عمل أحب إلى الله تعالى وإلى رسوله من الإيمان بالله والرفق بعباده، وما من عمل أبغض إلى الله تعالى من الإشراك بالله والعنف على عباده»
وستترك هذه الوصايا والأحاديث النبوية المعتدلة انعكاساتها على العمل السياسي الإسلامي سواء في الدعوة إلى الإسلام، أو إدارة الحكم والدولة الإسلامية تحت قيادته (صلى الله عليه واله وسلم)، عندما جعل الانطلاق من الحق (قبول طريق الله) والحرص على الإنصاف والعدل فيه الأساس المتين للحكم والأسبقية والأفضلية ، كما ترى ذلك في قوله عليه السلام: « السابقون إلى ظل العرش طوبى لهم. قلنا يا رسول الله ومن هم؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الذين يقبلون الحق إذا سمعوه ويبذلونه إذا سألوه، ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم. هم السابقون إلى ظل العرش»، وقوله عليه السلام: «اللهم من ولي من أمر أُمتي شيئاً فشق عليهم فأشقق عليه، ومن ولي من أمر أُمتي شيئا فرفق بهم فأرفق به»
والولاية هنا عامة تبدأ من ولاية الإنسان على نفسه وأسرته لتنتهي بولاية الحكم والإدارة العامة للدولة ، فوجود الرفق في هذه الولايات هو العنصر المهم لخلق القبول المتبادل بين أطرافها، وإذا كان الرفق مهما في الولاية الأسرية الضيقة والمحدودة، فهو في ولاية الحكم والإدارة العامة ألزم وأكثر توكيداً، وقد مارسه الرسول (صلى الله وعليه وآله وسلم) بأجمل صوره، فقد كان عليه الصلاة والسلام وهو رسول رب العالمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين ، وحاكم الدولة الإسلامية الأولى، يتقبل الرأي السياسي المعارض لدعوته والمشكك بالشرعية السياسية للدولة ، ويتعامل معه بحكمة واتزان ورفق من خلال الحوار، ومقارعة الحجة بالحجة، وصولا إلى الحق, فقد روي عنه عليه السلام أنه حاور في مجلس واحد ممثلي خمسة أديان: اليهود ، والنصارى ، والدهرية ، والثنوية، ومشركوا العرب ، وكان حواره بلا عنف، أو سخرية، أو تنازل عن الحق الذي جاء به الإسلام
وهذا الاعتدال السياسي النبوي هو الذي سمح لطرف سياسي - عقائدي معارض كيهود بني قينقاع أن يحاوروه بكل حرية قبل غزوهم من قبل المسلمين، بل ويتطاولون عليه بالكلام وهم يعلمون انه سوف يسمع قولهم ، ويرد عليهم بالحق قائلاً: « يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فقد عرفتم إني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم.. » كما يظهر اعتداله السياسي عليه السلام مع نصارى نجران في حادثة المباهلة المشهورة، فبعد أن امتنع النصارى عن المباهلة لم يكن رده عليهم بالعنف والإقصاء والتطرف، بل حاورهم وحاوروه بالقول: « يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك، وأن نقرك على دينك، ونثبت على ديننا، قال: فإذا أبيتم المباهلة، فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم، فأبوا، قال: فإني أناجزكم، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحكم على أن لا تغزونا، ولا تخيفنا، ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة : ألف في صفر، وألف في رجب، وثلاثين درعا عادية من حديد.. فصالحهم على ذلك.. »
ويتكرر الاعتدال السياسي النبوي في قصص أخرى كثيرة منها: قصة مربع بن قيظي، وهو رجل منافق ضرير البصر يمر به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه، فيقوم يحث التراب في وجوههم، ويقول: « إن كنت رسول الله، فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي، وقد ذكر..
إنه أخذ حفنه من تراب في يده ثم قال: والله لو أعلم إني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر» وقصته (صلى الله عليه وآله وسلم) مع عبد الله بن أبي سلول زعيم المنافقين في المدينة معروفة، فعندما تطاول هذا المنافق على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان رد الرسول وهو حاكم دولة المدينة الناشئة على من أراد قتل أبن أبي سلول إلا بالقول: « بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا»
كذلك قصته عليه السلام مع الإعرابي الذي وقف على رأسه الشريف شاهراً سيفه راغباً بقتله ، فما كان منه عليه السلام بعد أن أخذ السيف من الإعرابي إلا أن قام بإطلاق سراحه، بعد أن قبل قوله في أن لا يقف مع عدو له، دون أن يجبره على اعتناق الإسلام، فكان هذا السلوك النبوي المعتدل سبباً في إصلاح الإعرابي ودخوله وقومه دين الإسلام كما يتعامل عليه السلام بنفس الأسلوب مع عمير بن وهب قبل إسلامه، فقد ذهب عمير هذا إلى المدينة لقتل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد علم الرسول بنيته، لكنه تعامل معه بالحسنى فحاوره، وحاججه بالرفق واللين فما كان منه إلا أن أشهر إسلامه وفي السنة السادسة للهجرة النبوية، تتجلى عظمة النزعة الإصلاحية المعتدلة عند الرسول في صلح الحديبية، عندما قبل من سهيل بن عمرو أن يشطب من كتاب الصلح عبارة رسول الله، ويجعل الكتاب بالشكل الآتي: «..هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو..» فكانت نتيجة هذا الصلح هو دخول عدد كبير من الناس في الإسلام يفوق عدد من دخله بطريق الحرب والسيف.
ومن مظاهر الاعتدال السياسي النبوي الأخرى، قصة ذو الخويصرة، وهو رجل من تميم يأتي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهو يوزع العطاء على الناس، فيقول: « يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أجل كيف رأيت؟ قال: لم أرك عدلت؟ .. فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: ويحك إذا لم يكن العدل عندي، فعند من يكون؟ فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ألا أقتله؟ فقال: لا، دعه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية ينظر في النصل فلا يوجد شيء.. » وفي السنة العاشرة للهجرة النبوية يدخل المسلمون إلى مكة منتصرين على مشركيها بعد طول صراع، فما كان من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن حفظ كرامة خصومه وأعداءه أمام قومهم، فجعل لأبي سفيان عدو الإسلام الأول نصيباً من الكرامة عندما قال: « .. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.. »ويقبل عليه الصلاة والسلام إجارة أم هانئ بنت أبي طالب في أثنين من المشركين بعد أن دخلا دارها بالقول: « أجرنا من أجرت، وآمنا من آمنت.. »ولا يقهر صفوان بن أمية المشرك المعروف على اعتناق الإسلام، بل يعطيه أربعة أشهر ليقرر اعتناق دين الإسلام من عدمه
إن هذه الأحاديث والقصص، التي نجدها في سيرة سيد المرسلين لا تدع مجالاً للشك في أن الاعتدال السياسي هو المنهج المتين الذي قامت عليه الدعوة، ونظام الحكم في الإسلام، وكيف لا يكون الأمر كذلك، وقد سبق الحديث عن اعتداله عليه السلام ظهوره بوقت طويل، فقد قال عنه السيد المسيح عليه السلام ما نصه: « لذلك أقول لكم إن رسول الله بهاء ويسر كل ما صنع الله تقريباً لأنه مزدان بروح الفهم والمشورة، روح الحكمة والقوة، روح الخوف والمحبة، روح التبصر والاعتدال، مزدان بروح المحبة والرحمة، وروح العدل والتقوى، وروح اللطف والصبر التي أخذ منها من الله ثلاثة أضعاف ما أعطى لسائر خلقه.. » وهذه الصفات التي وصف بها هذا النص المقدس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تمثل جوهر منهج الاعتدال السياسي في الإسلام، إذ تجعل سيرته القولية والفعلية والتقريرية تتطابق مع ما تقدم من حديث عن الاعتدال السياسي في النص القرآني. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن هذا المنهج له ضوابط معينة عند الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، يجب مراعاتها عند العمل به تتمثل بما يلي :
- ضرورة الالتزام بطريق الحق وهو طريق الله بما فيه من أمر ونهي .
- اعتماد الرفق والتسامح والتيسير في دعوة الناس إلى هذا الطريق .
- جعل الحوار الهادئ البناء ، والمقالة المحكمة ، والحجة البالغة أساس التفاهم مع المخالفين من أهل الأديان المختلفة ، مع التأكيد على احترام قناعاتهم طالما تأخذ الإطار السلمي ، ولا تشكل تهديدا للكيان السياسي للدولة الإسلامية ، ليكونوا شركاء فاعلين في المجتمع . أما عندما يتجاوز هؤلاء على هذه الضوابط فأنهم يصبحون متجاوزين للحد ومتطرفين في مواقفهم السياسية بحيث يتحتم على القيادة السياسية العليا للدولة أن تتخذ الوسائل الكفيلة بحفظ النظام العام ، والدليل على ذلك تعامل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع يهود المدينة على سبيل المثال بعد غدرهم بمجتمعهم السياسي.
- إن العفو عن الرأي المعارض هو السياسة الحكيمة التي من خلالها يتم تأليف القلوب وجمع الكلمة لبناء الدولة في الإسلام ، لاسيما عندما لا يشكل هذا الرأي تهديدا مباشرا لكيان الدولة، ولحقوق وحريات مواطنيها.
- النزعة الصلاحية تتقدم على نزعة الانتقام والتعصب في المواقف السياسية ، لأن لها نتائج ايجابية تصب في مصلحة السلم المجتمعي ، والتعايش بين المكونات الاجتماعية المختلفة.
ــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha