كوثر العزاوي ||
إن من المفاهيم الاسلامية المتفق عليها في الشريعة، بأن العبادة لا تقف عند المفهوم الضيق للعبادة، بل هي شاملة للدين كله وللحياة كلها حتى لحظات العيون، ومن هذه المحطات العبادية النورانية المتميزة ولعلها الأقرب إلى قلب كلّ مسلم موالٍ محب هي"الزيارة الاربعينية السنوية" فهي الجامعة لكلّ نفائس القرب والحب والطاعة وهي من محطات الوعي العاشورائي ومدرسة البصيرة، والمسير إليها من كل أصقاع العالم مسير روحانيّ عرفانيّ، فلا يعرف قدر هذا المسير ولاعمقه على نحو العِدة والعدد سوى أهل الإيمان من الصالحين وكبار العلماء وذوو النفوس النقية والأبيّة، لأنها تلك الومضة التي تنقدح في عمر الإنسان مرة واحدة ليبقى سناها متوهجًا من الحول إلى الحول لتأخذ مريدها الى شواطئ المعرفة لما وراء تلك المأساة من
أهداف وغايات لايرقى إلى هضمها إلّا من اخذ الله بيده وفتح مغالق قلبه ليبصر المعاني الجمة، عندما يفهم أن زيارة الأربعين ليست شعيرة من شعائر الله وحسب، إنما هي منظومة قيَمية اخلاقية متكاملة فضلًا عن كونها ترسانة تعيننا على إدراك التكليف ومناهضة الباطل مهما تقمص دور الحليف ولبس لباس التقوى، والواقع أن عدونا يضع زيارة الأربعين تحت المجهر طوال العام وينظر الى نتائج ما قدمت مؤسساتهم التآمرية والتخريبية في وضع العراقيل في طريق نجاح هذه الظاهرة الملكوتية،
ورغم ذلك فأن يد الغيب تتحكّم بإدارة مسيرة الأربعين وما يعترضها قبل واثناء أدائها في كل عام، لتراها تنطلق في أبهى حلّة، في مسيرات حسينية من كل انحاء العراق خاصة والعالم العربي والاسلامي بعض الدول الاوربية عامة صوب كربلاء الطف لتجديد العهد مع سيد الشهداء واخيه ابي الفضل العباس "عليهما السلام" بمواصلة الدرب والمسيرة والثبات على ذلك النهج الثائر من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل ومحاربة كل من يريد تزييف الدين وتحريف أحكامه، أو التسلط على رقاب الناس وتهوين مقدساتهم فقد كانت هذه المسيرة الحسينية الكبرى ومازالت هدفا للطغاة وأعداء الدين والقيم في محاربتها والوقوف ضدها، ولم نر على مر الدهور طاغوتًا حارب تلك المسيرة كما حاربها طاغية العراق المقبور صدام، فقد عمل بكل جهده على مدى أربعين عامًا من اجل إسدال الستار عليها ومحو آثار خلودها، مستعمِلًا كافة الوسائل وشتى الطرق، في ظل سياسة تكميم الافواه وتحويل العراق الى سجن كبير، حيث ابتكر في أواخر ايامه ظاهرة الاعراس الجماعية في يوم العاشر من المحرم وأيام الأربعين في مسعى منه لاسقاط هيبة عاشوراء في قلوب ونفوس الناس، ولكن بفضل الله تعالى وإصرار أتباع آل محمد "عليهم السلام" قد اتضح وعلى مر السنين بأنّ كل اساليب الطغاة وأعداء المذهب واعلامهم الذي يعتمد الدعاية والتضليل والتشويه، لم يمض ولن يؤثر بالعراقيين الذين اثبتوا بانهم على وعي كامل بما يحيكه الأعداء من سياسات ظالمة يراد بها إسكات الصوت الحر لهذا الشعب الأبيّ، ولولا تلك التضحيات الجسام التي قدّمها العراقيون على طريق ذكرى واقعة الطف العظيمة، لما شاهدنا اليوم كل هذا الزحف المليوني الى مرقد سيد الشهداء الامام الحسين "عليه السلام" في كربلاء المقدسة، فالدماء التي أريقت عشقا والنفوس التي أُزهقت عنوة على بقاع بلد المقدسات على مدى قرون والى آخر الثلاثين سنة الاخيرة من عمر طاغية العراق، حيث نلمس ثمراتها اليوم ونحن نعيش عصر الديمقراطية في العراق، إنه الثمن الذي لابد ان يدفعه أصحاب الغايات السامية وليس هناك أغلى وأسمى غاية من دم المعصوم سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وريحانته سيد الشهداء "عليه السلام" وقد صدقت كبيرة البيت الهاشمي الحوراء زينب حينما قالت: {سيُنصب بهذا الطف علم كلما اجتهد ائمة الجور على محو اثره فلا يزداد الا علوا وارتفاعا}.
٣-صفر-١٤٤٥هج
https://telegram.me/buratha