د.أمل الأسدي ||
غريبٌ أمره!!
لم يكن هذا الرجلُ موجودا من قبل، سنوات وأنا في محلي هذا، أحفظ كلَّ الأزقة الضيقة المزدحمة، شارع النهر يعيش في مخيلتي، أشم حكاياته مع كل قطعة(أنتيكة) في محلي هذا، ذاكرتي سجلُ نفوسِ هذا الشارع!
منذ أن أُزيح صدام انطلقنا نستخرج القطعَ النادرةَ الممنوعة سياسيا ، نعرضها للبيع!!
يبدو مع ظهور هذه القطع الصامتة الناطقة بالتأريخ، ظهرت قطعٌ إنسانية كانت ممنوعةً من تنفُّسِ الشوارع!!
هذا الرجل المجنون (أنتيكة بشرية ) قديم، لحيته طويلة كدرويش يجيد السياحة، حكيم كنبيّ غدر به قومه!! مجنون كرجل استأصلوا عقله!!
يجوب شارع النهر، يلقي الخطب بلسان فصيح، ينصح ويزجر، ثم يفرُّ راكضا وهو يصرخ: والله ما أمشي بعد، التوبة!!
هذا المشهد أثار فضولنا جميعا، كنت أجلس مع جيراني (أبو خالد) رفيقي في مشوار (الأنتيكات) ونتحاور عن هذا المجنون العاقل!! تری ما هي حكايته؟
ومن هو؟ ولماذا ظهر الآن؟
نحاول اصطياد لسانه الطلق ؛ولكنه لا يستقر علی جدار أبدا!! يفلت كلّ مرة من بغتة الأسئلة!!
ذات مرة كان يحمل طبقَ طعام بيده(تمن وقيمة) وما إن رآني نهض من مكانه مسرعا ليفرّ من الأسئلة!
نهض، ركض بدهشة، والـ (والله ما أمشي بعد) تتقدمه!اصطدم بعابرِ سبيلٍ ، يداه مثقلة بالمشتريات ، فسقط كلاهما!! وأخذ الرجل يصرخ بوجهه، وضربه، واجتمع الناس حولهما، آلمني الموقفُ جدا حين رأيته بهذه الحال، بدا منهارا يرتجف، احتضنته،أخذته الی المحل ، أجلسته وغسلت له وجهه، وعالجت جروحه!!
وقد قررت في داخلي أن لا أعاود سؤاله مطلقا!!
نظر إليّ، ودموعه تتحدر، قطّع قلبي ، لم يكن أمامي إلا أن أشاركه الدموع!!
ثم بدأ يتحدث: أنا علي، بيتنا في بغداد الجديدة، اليوم اتفقنا أنا وأصدقائي أن نذهب (مشاية) إلی الحسين!!
قالها وهو يهمس في أذني!!
قلت له :لماذا تهمس؟
قال: الحياطين تسمع، الحياطين بعـثـية!!!
قلت له: ارفع صوتك ، صـدام زال عهده وانتهی الی غير رجعة!!
قال: رحت آنه وأصدقائي، بس ما وصلنا!!
دير بالك تحچي، ترة ما تبقالك كرامة!!
اي... اي ، محسن صديقي راح يم الحسين، ضربة وحدة علی راسه وانتهی!!
قلت له:رحمه الله، اهدأ قليلا، ذاك العهد انتهی!!
قال: انتهی عندكم، أما أنا فمازال يلعب في مخيلتي!!
واحد، اثنين ، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة....عشرة كلهم ايصيحون لا تمشي!!
كان يتحدث ويبكي وأبكي معه، أواسي كرامته المهدورة، أواسي عقله المُهجَّر قسرا!!
آلمني حين قال لي: عبالهم من ما أمشي اعوفن الحسين!
تعال تعال قرب اذنك لايسمعون: ترة حسين كل ذيچ السنين هو اليجينا، هو اليمشي لنا!! اي هو وفي ويه اليحبوه!!
لحظات وأخذ يصرخ(والله ما امشي، التوبة!!) جثا علی ركبتيه والصراخ ملأ الدنيا: عوفني لاتضربني، والله بعد ما امشي!!
ثم فرّ راكضا ... عبر الشارع، والأفواه حوله تصرخ:
ما نمشي بعد!!
وكل الشوارع تصيح: والله كلنا نمشي بعد!!
والله كلنا نمشي بعد....
https://telegram.me/buratha