سالم مشكور ||
كشف الحكم القضائي الصادر بحق مغتصب الأطفال في الأنبار عن حجم الطائفيَّة الاجتماعيَّة المتوطّنة في العراق، وهو ما يدحض الإدعاءات بأنَّ الطائفيَّة هي سياسيَّة فقط وأنَّ المجتمع لا يعترف بها. بل إنَّ الطائفيَّة السياسيَّة ضاق مداها بعد اتساع تيارٍ عابرٍ للطوائف هو تيار الفساد والمصالح الخاصة، التي جمعت كثيرًا من الأضداد ومتحاربي الأمس. كشفت المناوشات الطائفيَّة حول الحكم القضائي، عن حجم التعصب والتحفّز ضد الآخر عند كلِّ فريق، لدرجة تدفع إلى الاستماتة من أجل نفي تهمة أثبتها القضاء بأدلّةٍ واعترافاتٍ استند إليها في الحكم. على الجانب الشعبي الشيعي تعامل كثيرون مع هذه الجريمة من منطلق التشفي الطائفي، غافلين عن أمرين أساسيين، أولهما إنَّ الجريمة موجَّهةٌ إلى سمعة الدين وحاملي لوائه ومدرّسي قرآنه، وإلى المسجد كمركزٍ لحفظ القيم والأخلاق، بغض النظر عن الطائفة، وثانيهما إنَّ هذا السلوك الشاذّ موجودٌ في كلِّ الأزمان ولدى كلِّ الاقوام، وقبحه نابعٌ من طبيعته وليس من مكان ارتكابه أو انتماء مرتكبه الديني أو المذهبي أو الاجتماعي أو الجغرافي. على الجانب السنّي شمّر كثيرون -بعضهم مثقفون وخطباء مساجد للأسف- عن سواعدهم وراحوا يختلقون القصص والشهادات لإثبات براءة المرتكب، بل راح بعضهم يتحدّث عن استهدافٍ طائفيٍّ للمكون من خلال اتهام هذا الشخص، متجاهلين اعترافاته التي أدلى بها بحضور إمام الجامع، الذي يعمل فيه المرتكب لهذا الجرم الشنيع، وشكاوى أهالي بعض ضحاياه من الصبيَّة. بل راح بعضهم يتّهم الآخر بالفجور ويطعن في شرف النساء بحجة انتقاد الطقوس. وفق هذا المنطق لن يكون بالإمكان إدانة مجرمٍ ومعاقبته، لأن تهمة الاستهداف الطائفي جاهزةٌ للإشهار بوجه الجميع.
لا فائدة من النقاش العقيم حول ما إذا كانت الطائفيَّة الاجتماعيَّة نتاج الطائفيَّة السياسيَّة أم هي أرضيتها أو أساسها، بل المهم أن نعترف أنَّ الانقسام الاجتماعي موجودٌ وأنه ينتظر شرارةً صغيرةً ليعود لهيبه إلى التصاعد. قد يستغله سياسيون للكسب الانتخابي أو غيره، بينما يبقى الجهل هو الدافع إلى التعصب وغياب الثقة. هذا ما يجب أن يتنبه له الحريصون على وحدة المجتمع والبلاد والساعون إلى معالجة هذا الانقسام الكبير، سياسيون كانوا أم مثقفون.
الانقسام المجتمعي على أساس الهويات له تأثيرٌ عميقٌ وبعيد المدى على المجتمع، فهو يؤدي إلى تآكل التماسك الاجتماعي، وتأجيج الصراع، وعرقلة التنمية الاقتصاديَّة، وتقويض الاستقرار السياسي. إدراك وجود هذا الانقسام ووعي آثاره الضارة يشكّلُ المرحلة الاولى من معالجته، بينما التغافل عنه والتغني بالوحدة المجتمعية يعمّقان المشكلة ويزيدان من صعوبة حلّها.
عقدة الاستهداف والتهميش لا تساعد على بناء وطنٍ سليمٍ، بل تؤدي إلى خلق كانتوناتٍ منعزلة، والى تحصين الفاسدين والمجرمين من أيِّ عقابٍ بحجة أنهم ضحايا استهدفٍ طائفي، وهو ما يسعى إليه من يعملون على برنامج التقسيم التدريجي للبلاد.
لا تكفي الجهود الفكريَّة والثقافيَّة في معالجة هذا الأمر، بل يحتاج الأمر إلى إجراءاتٍ قانونيَّة رادعةٍ، لأيَّ استغلالٍ طائفيٍّ لأيِّ حدث. دولٌ تشبه العراق في ظروفها عمدت إلى تجريم أي حديثٍ يثير الكراهية والانقسام، ويربك الاستقرار الاجتماعي والسياسي، بقوانين واجراءاتٍ صارمةٍ بموازاة برامجِ تعميق الروح الوطنيَّة ومكافحة الجهل والتعصب برفع مستوى الوعي.
ولا مناص هنا من تركيز الجهد الرسمي على متابعة وسائل التواصل، التي باتت ساحة نشر للكراهيَّة والعنف اللفظي، الذي قد يتحول إلى عنفٍ جسديٍّ بدياتٍ أوسع.
لا يمكن استمرار عن الخطر الذي يتحرك في مواقع التواصل، التي باتت مواقعَ للتمزيق الاجتماعي.
https://telegram.me/buratha