أحلام الخفاجي ||
ذات يوم وأنا اتجول في باحة أفكاري، وإذا بكهل أشعث الرأس، بعينين غائرتين أرهقهما الترقب، تارة يجثو على ركبيته يحثو على رأسه التراب بمعزل عن عيون الناس مندثرا بجلباب الفقد مفترشاً أرض
التيه، وأخرى بلا وجِهة يمشي بتثاقل على أرصفة مهترئة متعبة شابكا يديه خلف ظهره، يدحرج كل ما يصطدم بقدمه، والكثير من الكلام الذي فات أوانه.
ياالهي! وكأني أشمُّ رائحة معرفته، فإذا به ذلك المدعو (الانتظار) بتلك الندوب التي حفرتها يد السنين على ملامحه، واستعمرت تضاريس صوته، ما بين مزيج من خوف وعطف ربتُ على كتفه متسائلة :لِم هذه العزلة؟
وكأني أسمع صوت قلبه جاثياً على ركبتيه يشكو ما ألم به، أو شيئاً من بقايا بكاء لم يُبك بعدُ فأجاب : إنّ من الناس من يبغضني، ولطالما رجموني بحجر العتب والّلوم ليثقلوا كاهلي بكل سنيّ الأمهم وشوقهم، وتناسوا إن هي إلا فطرني التي جُبلت عليها، وإلا لِم سُميتُ بالانتظار؟ لكن لا عليك ساحدث لك ذكرا، إن عملت به ستجعل أفئدة من الناس تهوى إليك لياتوك من كلّ فجٍ عميق، ألم تسمع بقول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله - : (إنّ أفضل أعمال أمني انتظار الفرج)؟ وقول أمير المؤمنين ـ عليه السلام - : ( انتظروا الفرج ولاتيأسوا من روح الله) لتصيبه الدهشة لهول ما سمع.
اتعلم أيُّ انتظار تحدّث عنه أهل البيت (عليهم السلام)؟
ذلك الانتظار الإيجابي المقرون بالعمل، وليس كما أنت الآن تجلس في وادي الوحدة تندب حالك وكأن على راسك
الطير.
ذلك الانتظار المتهجّد باللّيل بالشفع والوتـر تحت أزيزالرصاص الذي يعُدُّ العدّة والعدد القيام قائم آل محمد، ولو كان ذلك الإعداد سهما؟!.
ألم تسمع قول إمامنا الصادق (عليه السلام): (ليعدّنّ أحدكم لخروج القائم ولو سهماً، فإنّ الله تعالى إذا علم ذلك
من نيته رجوتُ لأن ينسئ في عمره حتى يدركه فيكون من أعوانه وأنصاره)؟
أتعلم ماهيّة ذلك السهم ؟ إنّها تارة الكلمة
المدافعة عن حرم الحق في السواتر الافتراضية المتمثلة بمواقع التواصل الاجتماعي بمختلف مسمّياتها، أن تنصب خيمة على حدود الكلمة، تقيم فيها مجلساً تُعزي فيه ذلك الضلع المكسور والصدر المعصور مابين الحائط والباب، تُطفئ به السنة النيران التي التهمت باب فاطمة بحطب من قال (وإن)!!
وأنت تسمع بكاء المحسن ليسافر بك عبر الزمن حيث وادٍ من غير ذي زرع، حيث بكاء اسماعيل وقنوت هاجر وتهجّد إبراهيم، مجلس تنعى فيه حسينا، فقد قال الإمام الباقر - عليه السلام ـ (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا) لتعرج
بعدها إلى الشام وأنت تسـرج قلبك على بُراق الشوق ليتسلّل إلى مسامعك أنين الفقد بصوتٍ ابتلعه الوهن من قلب تلك الخربة التي احتضنت أيتام الحسين، والتي خيّم عليها شيح الغياب، ثم مجلس ابن زياد اللعين حيث زينب الصبر متحدّيةً جبروتهم ب: (مارأيتُ إلا جميلاً) ذلك الجمال الذي أبصرته مولاتنا بعين البصيرة واليقين، والتي لو افتدى يزيد وزبانيته مافي الأرض جميعا لما مرّ بهم طائفٌ منها.
وأخرى هو رفع أقلام جهاد التبيين لتتجاوز تلك الأسلاك الشائكة التي وضعها العدو على حدود البصيرة لفضح كلّ مؤامرات الأعداء التي حاكوها بمغزل حربهم الناعمـة.
لينسجوا لنا بساطاً ذو ملمس ناعمٍ وألبسوه قفّازات مخملية ليغطّوا به حفرة العلمانية، وليصطادوا بها مجتمعاتنا بصارة
الانفتاح.
وثالثة هو سلاح الحق بيد رجال الله وهم يذودون بأرواحهم عن حرم الله وكأنهم من أصلاب اولئك السبعين الذين اجتمعوا من أصقاع الأرض لنصرة الحسين.
ورابعة هو ذلك الحجاب الزينبي الذي طالما تمسكت به نساؤنا حتى يردنّ حياض الزهراء لُيسقينّ بيد زينب كأساً
هنيّاً رويّاً سائغاً لن يظمئنّ بعده أبدا.
وهو تلك العباءة السّوداء أحدهُم يراها لباسّا ساترا، وثمّة من يقرؤها: (لن تمحُو ذكرنا) والسّلام على خِدرها.
وهو عندما تعلم نساءنا أنّ الحجاب ليس فقط عباءة، بل الحجاب العفيف يشمل تلك النظرة والظهور المتصنّع في مواقع التواصل، والتجمل والتباهي لنشر الملامح والجسد، فعندما يتغير نمط لف الحجاب في اللحظة التي تخرج المرأة فيها من سكنها إلى مكان آخر، يجب أن تعيد حساباتها بشأن صدقها وإخلاصها مع الله (تعالىّ) علينا أن نخجل فإنّ إمامنا يدثّرنا بعطفه وستره، ويضيئ دجناتِنا بدعائه، ونحن لم نكلف أنفسنا حتى التفكّر بكيفية نيل رضاه.
وهو التمسك بتلك العمامة المباركة التي كانت وستبقى لنا سفينة(بسم الله مرساها ومجراها) في زمن طوفان الفتن والتي لولاها لأصبحنا نجول جولان النعِّم ولا نجد المرعى.
وفي لحظة هاربة من الزمن، انتبهتُ لملامحه وكأنّ لسان حاله يقول: هل من مزيد؟ فاستزدته، فقلتُ: هـو ذلك الاقتدار الشيعيّ، هو ذلك الرجل المقاوم الذي حمل على كتفه
همـوم أمّة بكاملها ليقطع بسكين الصبر والتحدي إيدي اخطبوط الاستكبار العالمي الملتفة حول جسد المذهب، وليُنجب من صُلبه جيشاً هُماماً يُوطّئ للمهدي سلطانه.
وهو أن يرتعد منك العدو بالسر والعلن، ويتمنى لو نغفل عن أسلحتنا ليميل علينا ميلةً واحدة.
المهم هو أنّ نغوص في بحر ذلك الإرث الذي تركه لنا أهل بيت الرحمة والذي يتحدّث عن علامات الظهور وكانّها بوصلة تهدينا سُبل النجاة حتى لا تصطادنا شباك الحركات المنحرفة وما أكثرها في يومنا هذا، ولنعُدّ انفسنا ونتهيّأ لنُصرة رايات الهدى المتمثّلة براية اليماني والخراساني، وبالتالي نصرة ذلك الغائب القادم على صهوة الأمل.
فإذا بالانتظار تبتهج أساريره، وتدبُّ الحياة في نهير روحه القادم من واحة الصبر لينفض غبار الياس عن وجهه قائلا: نحن لم نُخلق لنيأس؛ بل لنقف على ناصية الحلم ونقاتل حتى نصل أملنا المنشود ذلك الموعود من آل محمد ليملأها
قسطا وعدلا كما مُلئت جورا وظُلما، فسأكون جميلًا متى ماكنتُ عاشقاً حقيقياً لا لأجل مثوبة؛ بل ځبّا به.
أن نكون جميعا كميثم التمّار نُصلب على جذع نخلة الصبر ودماء الشوق تسيل وتنادي: تعالوا أحدثكم عن مهدي آل محمد.
أن نكون ككُميل نتهجّد الليل بنوافـل عشـق إمام زماننا لتنهمر دموع الخشوع بصمت تحاكي تلك اللّهفة التي استوطنت أرواحنا تطلب المهدي، إذن! فلنسأل أنفسنا : كم من ميثمٍ وكُميل فينا ؟
https://telegram.me/buratha