كوثر العزاوي
منذ بداية أحداث عمليات طوفان الاقصى، لم أفتأ اتابع أخبارها لحظة بلحظة وبغاية الأهتمام حتى أنتشر خبر الإعلان عن هدنة تتخللها عملية تبادل الاسرى بين الطرفين، ليكون الحدث الأبرز فيها مشهد عودة الأسيرات الفلسطينيات من سجون الكيان الغاصب، حيث خطف أذهان الشرفاء فصار السبق أسرع والتركيز أعمق، وأخذت كاميرات الاعلام تدور رحاها في رصد كل صغيرة وكبيرة من دقيق القول ووضوح الحركة وكلّ مالَهُ صلة بالأخوات الأسيرات، والحق أنه لحدَث جدير بالتغطية إذ أثلج صدور الاحرار والشرفاء! ولعل مادفعني لكتابة مقالتي هذه وهي عبارة عن ذكريات واقعية اسردها على نحو المقايسة بين حُقبتَين والمشهد واحد يخص المرأة السجينة او الأسيرة، وأثناء متابعتي للحدث الأبرز، إذ مرّ شريط الذكرى ليعود بذاكرتي إلى ماقبل [٣٠]عاما أو يزيد وبالتحديد في عام[١٩٨٦-١٩٩١] إذ تم إطلاق سراح مئآت السجينات والسجناء بمعدل دفعتين بعد قضاء سنين عجاف في غياهب السجون، في زمنٍ كان طاغية العراق ربيب إسرائيل المدلل وكلب حراسة الشيطان الأكبر في المنطقة، فقد حوّل عراق المقدسات كله الى سجن كبير توزعت دهاليزه على بقاع محافظات البلد، وكان فيه ماكان من حكايا وفنون القمع والتنكيل التي طالت جميع فئآت الشعب العراقي، شِيَبة وشبابًا من الرجال والنساء وحتى الأطفال والصبايا، أما وأنني لست بصدد بيان مالم يخفَ على متتبّع شريف، ولكن ماأثار شجوني وأشعَلَ لهيب ذاكرتي وانا مستغرقة بمشاهدة وقائع عودة الاخوات الأسيرات إلى ذويهنّ بعد الأسر لسنوات والدموع تغمرني، حتى أخذتني نفسي بعيدا ليشرد ذهني مع أحداث مروعة عشتها مع ثلة من حرائر العراق تقدّر بأربعة آلاف بين سجينة وشهيدة، في سجون البعث السفاح، عدى من غُيّبت وإلى يومنا هذا مفقودة الأثر! ولست بصدد سرد مآسي الاعتقال والتعذيب والقهر، لعلها احداث تشكّل أضعاف مايجرى في سجون الصهاينة على حرائر فلسطين لذا أعرض عنها، فكل لحظةِ وَجَع مثُلَت الآن في ذاكرتي أثناء تأمّلي مشاهد حية لأخواتنا وبناتنا الصامدات المطلق سراحهنّ، حقًّا إنّ اليوم الذي تكون فيه المرأة السجينة خارج أسوار السجن لايُشبههُ يوم على الإطلاق! سيما وأنني عشت حياة السجن في زمن ليس ببعيد في سجون الطاغية صدام، فعندما عَلِم ذوينا بقرار إطلاق سراحنا بعد قضاء أعوامٍ أقلّها سبع أعوام وأكثرها عشرون عامًا، بدأ ذوي السجينات يصلون تباعًا دون ضجيج، فقد أبلَغوهم مسبَقًا بحضور واحد فقط لاستلام السجينة، كما منعوا إبداء أي مظهر من مظاهر السرور عند لقاء بعضهم ، اما نحن فقد كنّا على أهبة الاستعداد لمغادرة عالَم شبه البشر، والذهن مزدحم بآلاف الأفكار، مزيج من مشاعر القلق والفرح، وهواجس شتى تأخذنا إلى عالم ماوراء الأسوار، ولعلّ داعيَ الغمّ الذي استحوذ علينا آنذاك، أنّ قتلة الأحرار وطاغوتهم المجرم، مايزالوا جاثمين على صدورنا مما يعني أن لاحريّة مطلقًا في ظل سياسة تكميم الأفواه! ترى مالذي ينتظرنا؟!! هذا ماأوكلناهُ حينئذ إلى ربّ المستضعفين “عزوجل”والى راعي شؤوننا صاحب العصر والزمان “أرواحنا فداه”.. انتبهتُ من شرودي على صوتٍ ينادي باسمي باتجاه باب السجن الكبير، تناولت أغراضي مسرعة، وهي عبارة عن حقيبة صغيرة من بقايا قماشٍ خَرِق عملتها بيدي وفيها بعض أعمال يدوية وحاجيات للذكرى ولي فيها مآرب أخرى بألف معنى!، توجهت نحو باب المغادرة، وانا اشعر بانحسار روحي وانحباس أنفاسي، وعبراتي تزاحم أضلاع صدري، ماكان أملي أن أغادر والجلاد مازال حاكمًا متسلطًا، ومئآت الآلاف من رفاق المحنة أخوة وأخوات مازالوا داخل أسوار السجون الأخرى”أبو غريب وسجن الرشاد” ومشيت الهوينا ولاادري مَن ينتظرني من أهلي، وانا اعلمُ سلَفًا مَن بقي منهم!! وقبل أن أصل الباب الخارجي العملاق، أدَرتُ كامل جسدي ومددتُ ببصري لأملأَ عينيّ بمعالَم سِجني وسجّاني، ومحطات تأمّلي وعنائي! ولكن ثمة بعض تلويحات أكفٍّ عزيزةٍ لرفيقات المحنة حالت دون ذلك، فانبرت دموعي هاملة ساخنة تنافس سخونة جو العراق الذي وافق شهره الخامس! لااملك غير استشعار معية ربي، فاشهدتهُ أني راضية بقضائه، مسلِّمة لأمره، اللهم احتسبتُ نيتي وعذاباتي خالصة عندك، فتقبل مني وممن بقيَ بعدي من العفيفات الصابرات، وبينما كنت أحاول التثبّت كي لايبدو عليّ الاضطراب، فداخلي مستقر، وخواطري تنهشني، وبين هذا وذاك إذ طرق سمعي صوتًا كأنه صوت أمي! بلى إنها أمي، هرولت كالطفلة نحوها فاعتنقتني بكبرياء زينب ودموعها تنساب صمتًا لم يكن معها احد غيرها، ولاسيارة خاصة تنتظرها، ولا ورود تُنثر حولها ولاجماهير تهتف ولانساء تزغرد، ولا إعلام يتنقل بكاميراته من سجينة الى أخرى ليُعرَف منها مالايصدّقه العقل، قلت لها :امي كيف سنذهب إلى بيتنا؟ قالت :الله معنا ياابنتي سنستأجر تاكسي لاعليك..انا سلمت زمامي لربّي وأمّي لأنني لم اتبيّن معالم الطريق، فقط أشعر وكأنني في غير بلدي، علما أن منطقة سجن الرشاد تقع على أطراف بغداد وانا من بغداد، أوقفَت أمي تاكسي فركبنا وانطلقت بطريق متعرّج خالٍ من أي جاذبية، وكنت أتمنى لو سابقت سيارتنا الريح لأصل إلى بيتنا دون أن أرى شيء، ولكني رأيت ورأيت، وسرَحَت خواطري مع تلك الشوارع والأزقة الخاوية على عروشها، والبيوت المتهالكة الّا من كبرياء وعزة أهلها، وتلك المساجد بمآذنها الصامتة، وفناءاتها الفارغة، والمنازل خافتة الأضواء، مخنوقة بأحزانها كأنها تنعى فرسانها الراحلين قسرًا إلى المجهول، اولئك الذين كانوا يرسمون الفرح والأمل في جوانبها! كطيور تسبّح بحمد ربها! وبينما انا غارقة في بحرِ صمتي ومشهد عالَمي الذي سأبدأ معه صفحة جديدة بعد سنين تعدل عمرًا استثنائيا بكل تفاصيله!! انتبهتُ إلى صمت أمّي المطبق إلّا من تنهدات واهنة بين الحين والآخر وكما يبدو هي الاخرى تتأمل الآتي، تلمّستُ يدَها لتدرك حاجة روحي لها، أمي كم من المسافة بقيت لنصل؟ قالت: ها قد وصلنا “يمة”، وما إن دخلنا زقاقًا ضيقًا، طلبت أمي من السائق التوقف، أعطته الأجرة ونزلنا، ذهبت السيارة ومشينا بضعُ أمتار وتوقفنا عند بابِ خُيّلَ لي انه باب بيتنا، حدّقت جيدا! نعم، إنه هو، وكأنه قد أحاطت به الجراح، وغيّرت لونه المحنة، كم انت وفيٌّ أيها الباب، أما زلتَ صامدًا رغم الرياح الصفراء! لطالما ركلتك اقدامها الهوجاء دون طرقها بأدب!! وكنتَ الآخر مرغمًا إذ تحتملتَ ركلات أزلام الرعب الصدّامي لمرات ومرات! أم كيف بقيتَ مُحكَمًا ساترًا وجنازة الأب الرؤوف الممتَحن تجتاز عتبتك مغادِرًا بلا عودة؟! لله درك! مازلتَ كما أنت لم تتهاوى ولم تجزع أمام أمّ مسنّة أوهنها الفقد وانت شاهدٌ على غدوِّها ورواحِها كل يوم قاصدة دوائر الأمن بحثًا عن فلذات كبدها، وقد أثكلت بنا نحن أبناؤها الستة إذ غُيّبوا عشرات السنين فحرموها عنوة قربهم حتى مضت بحسرة معرفة مصيرهم صابرة محتسبة!! فسلام عليك باب بيتنا! ليتك تبقَى معي، فها قد عدت إلى البيت من خلالك فاثبت معي، فأنت ايضا رفيق محنتي، وكأنك بلا شك تستشعر عمق الجريمة التي ارتُكبت بحق الآلاف من اتباع آل محمد “عليهم السلام” في عراقنا الجريح، المُصادَرة جميع حقوقهم وحرياتهم!دخلتُ البيت، وقفت هنيهة، ورحت أخطو متطلعة أرجاء بيتنا البسيط، أجواء ضربها الصمت وخيّم عليها الحزن، هنا كان يجلس أبي عند اعتقالي، هنا سحبوني من بين يدي أمي، هنا كنا نجلس على مائدة الطعام مع اخوتي، هنا وهنا وهنا.. وكلّ موضع يصرخ في أذني..ابي، اخوتي، أحبتي، ها أنا أقلّب الطّرف بين أروقة البيت زاوية تلو الأخرى، لم ارَ محمدًا ، ولم أسمع صوت محسن، تُرى أين ابتسامة عليّ! أجرُّ قدميّ كأنها ثقل الحديد، كمن للتوّ يتعلّم المشي جرّاء الركود في سجون البعث المجرم، يالها من زفرات حرّى، لم ينطفئ أوارها طيلة تلك السنين، وأعود فابتسمُ كلما تراءى لي وجه ساجدة وهي تحمل بين يديها برعم من محمد، إنه ضياء! يالابتسامتك العذبة وقدّكَ الحرير يابكر فرحتنا، دنوت لأشمّه، فرَّ مني خياله، وبينما أنا كذلك، إذ طُرق الباب، إلتفتُ خلفي واللهفة بدت تحرق عينيّ بسخونة دمعها الصامت الذي لم يتوقف دون ضجيج، وبين الشوق والخوف، همستُ لنفسي، لعل من طرق الباب هو زوجي!! لا ليس هو وليس هم بل ولا احد منهم! وشيء فشيء شعرت باضطراب اركاني، بينما أرنو إلى أطيافهم، خرجت صرخة رغمًا عني بعد تراكم العبرات وانحباسها بين اضلعي، جثوتُ على ركبتيّ، استرجعتُ والدمع مِلأ عينيّ، لم أشأ أؤجج جمرة قلب أمي وأختي وأخي، رفقًا بهم فهم بقية أهلي، لكنها اللحظات كرأس حربة تنحرني، وكأن ثمة من يسألني، ترى أين الاهل والصحب، أين السند أين الحبيب والشريك!! ليأتي الردّ بشجوِ الصدى:”كلهم شهداء”! استفقت والانشراح يغمرني وانا أردد: إنهم شهداء، شهداء عقيدة ومبدأ، لقد ٱشترى الله منهم أنفسهم بأنّ لهم القُرب والجنة، فلبّوا كما الحسين غير آبهين، وظلّت بضاعتنا مزجاة، فلاتحرموني صحبتكم! استرجعت واستغفرت فوجدت نفسي غارقة مع صفحات الذكرى، رفعت رأسي وسرعان ماعدتُ إلى مَشاهدَ تحرير أسيرات غزة، وكيف أنّ العالَم والإعلام يعاضد ويساند، ونحن وكل شعوب العالم نهتف: لستم وحدكم كلنا معكم، ياأهل غزة، فهل من نسبة مقايسة بين اليوم والبارحة؟! أين إعلام اليوم وفضائيات العالم عن تلك الحقبة المظلمة الظالمة عندما كنا غرباء والشمس مذبوحة في بلادنا، والسجون تعجّ بالأحرار والحرائر، ورقاب اتباع الحسين تزدحم على مقاصل الإعدام، وفي كل يوم مئة شهقة تُدفن حية قبل خروجها في مقابر جماعية ولامن ذِكر ولا أثر! فهل ثمة مَن يُنصفُ المستضعفين غيرك ياصاحب الزمان!!
١١-جمادىالاولى- ١٤٤٥هج
٢٦-١١-٢٠٢٣م
https://telegram.me/buratha