حسن المياح||
يواجه القطاع الصناعي في العراق واقعاً قاسياً تتواشج فيه الظروف الموضوعية الصعبة بعوامل الخلل البنيوي والإخفاقات الإدارية الكبيرة الأمر الذي جعله يدخل في طور من السبات والركود والخمول. ولكونه يعيش على الإنعاش، عبر ضخ موارد مالية فيه من عائدات النفط وميزانية الدولة للإبقاء على عجلة الصناعة قيد العمل، فإنه أصبح عبئاً على الاقتصاد الوطني. وبما أن النهوض الصناعي شرط ضروري ولازم للتنمية الشاملة، يمكننا القول بشكل جازم بأن أي عملية تنمية شاملة في العراق لن تكون ممكنة بدون إحياء القطاع الصناعي وتحريره مما يعانيه من عوامل ضعف والتغلب على الصعوبات التي يواجهها. وهذا التحدي لا يزال يقض مضاجع الحكومات التي تعاقبت على الحكم في العراق منذ عام 2003. فلماذا آلت أحوال القطاع الصناعي في العراق إلى ما هي عليه من تدهور واضمحلال؟ وما الذي يمكن فعله للنهوض به مجدداً؟
تاريخ مشرق
تاريخ الصناعة في العراق موغل في القدم حيث تعود بداياته إلى الحقبة الرافيدينية القديمة. ففي أرض الرافدين اخترع أجدادنا القدماء شتى الاختراعات التي أفادت البشرية على مر العصور، ومن بينها العجلة التي غيرت وجه التاريخ. كما استفادوا من المنتوجات والمحاصيل الزراعية والحيوانية التي توفرت لهم بحكم خصوبة أراضيهم لتأسيس صناعات غذائية، مثل الزيوت والمعجنات والألبان والأجبان والمشروبات، وغير غذائية، مثل الصناعات الجلدية والملابس الصوفية والمنتوجات المحبوكة من الأعشاب والقصب كالسلال. وشكلت الحرف والصناعات اليدوية، مثل المصوغات والأسلحة والفخاريات والأثاث المنزلي، عماد الصناعة القديمة في بلاد الرافدين. ولا يزال بعض هذه الحرف والصناعات اليدوية، مثل صناعة الأواني والجرار الفخارية وسلال القصب والمصوغات والحلي وما شابه، حية إلى يومنا هذا وتشكل عنواناً للأصالة والتمسك بالتاريخ.
وفي العصور الحديثة، شهد العراق، ومنذ القرن الثامن عشر، نمو صناعات تعتمد على الآلة الحديثة والمكننة، مستفيداً بذلك من تجارب الدول الصناعية في أوروبا ومقتفياً آثارها. صاحب ذلك تراجع في الصناعات اليدوية والحرفية بسبب عدم قدرتها على التنافس مع الصناعات الحديثة ولا المنتوجات الصناعية المستوردة بأسعار أرخص. وشهد القطاع الصناعي بعد ذلك توسعاً ملحوظاً كماً ونوعاً. فلقد ارتفع عدد المشاريع الصناعية الحديثة بشكل مطرد كما ازدادت المشاريع الصناعية تنوعاً من حيث نوع المنتوجات. وإبان العقود الأولى من العهد الملكي، شهدت البلاد تدفق استثمارات أجنبية وخصوصاً في قطاعات حيوية مثل النفط، بينما تعثر تطور الصناعة في القطاعين الخاص والعام لاعتبارات عدة لعل في مقدمها نقص الموارد المالية والافتقار إلى خطة تنموية تعنى بتنشيط القطاع الصناعي. وهذا رغم لجوء الحكومة إلى سن تشريعات ترمي إلى زيادة التراكم الرأسمالي عبر حماية الصناعة الوطنية، مثل قانون التعرفة الجمركية رقم 30 لسنة 1927 وإنشاء المصرف الصناعي-الزراعي عام 1935. ولعل من أبرز الشركات التي تأسست في هاتين الحقبتين هما شركتي فتاح باشا وصالح أفندي للغزل والنسيج.
وجاءت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية لتشهد نهوضاً في القطاع الصناعي واهتماماً حكومياً بدفع عجلة التنمية في البلاد عبر الاستفادة من تعاظم العائدات النفطية التي كانت تحصل عليها الحكومة العراقية. ولهذا الغرض، سُنّ القانون الرقم 23 الذي أنشأ مجلس الإعمار الذي تولى تنفيذ مشاريع عمرانية وبنى تحتية وفق خطة طويلة الأمد للتنمية. وساهم ذلك في انتعاش القطاع الخاص حيث شهدت الخمسينيات إقبالاً على تأسيس شركات صناعية تحويلية واستهلاكية وإنشائية، من بينها شركة الزيوت النباتية، وشركات إسمنت في مناطق مختلفة من البلاد، أبرزها السماوة، وشركة الكوكاكولا.
وشهد القطاع الصناعي طفرة ملحوظة بعد ثورة 14 تموز 1958 التي أولت التنمية الصناعية أولوية. فأنشأت الحكومة الجديدة وزارة الصناعة عام 1959 لدفع عجلة التصنيع في البلاد قُدُماً واعتمدت استراتيجية اقتصادية طموحة جعلت من التصنيع نقطة ارتكاز أساسية في سياستها التنموية. واقتضى ذلك إعادة تنظيم المؤسسات الحكومية المعنية بالصناعة بحيث تضطلع بمسؤوليات النهوض الصناعي عبر إجراء دراسات علمية وفنية ووضعها في متناول القطاع الخاص. كما اعتمدت الحكومة سياسة حمائية لوقاية الصناعات المحلية من المنافسة الأجنبية، من بينها إعفاءات ضريبية وجمركية للصناعات، فضلاً عن تشجيع استهلاك المنتوجات الوطنية، وإنشاء مؤسسات تقدم محفزات للصناعة الوطنية مثل تأسيس شركة الصناعات الخفيفة.
وحدّت سياسة التأميم التي اعتُمِدَت عقب الإطاحة بحكم عبد الكريم قاسم بعض الشيء من استثمارات المستثمرين في القطاع الخاص، والتي تركزت في الصناعات الخفيفة. ولكن هذا القطاع استمر في تزويد السوق المحلية بقسط لا بأس به من احتياجاتها من المنتوجات الغذائية، والنسيج، والأحذية، والطابوق وغير ذلك. ولئن أضعفت هذه السياسة القطاع الخاص، فإنها عززت من حضور القطاع العام في مشاريع صناعية ضخمة، كالبتروكيماويات والأسمدة الكيماوية، كانت تلبي الاحتياجات المحلية وتصدر منتوجاتها إلى شتى مناطق العالم.
الصناعة: من الطفرة إلى الركود
ومكّن الازدياد الكبير في العوائد النفطية في منتصف السبعينيات الحكومة العراقية من تسريع وتيرة التصنيع في سياق تنمية انفجارية لم تخلُ من نزعات استهلاكية وتبذيرية وطفيلية. وجرى تركيز الاستثمارات الحكومية في مجال الصناعة في القطاع العام، بحيث حصل القطاع العام على 22 مليار دينار من أصل 23 مليار دينار من التخصيصات الاستثمارية للقطاع الصناعي في الفترة الممتدة بين عامي 1970 و1990. كما تركزت الصناعات الخفيفة والمتوسطة عموماً في محافظات بغداد والبصرة والموصل بحكم كثافتها السكانية وقرب المصانع والمعامل فيها من المراكز الاستهلاكية الرئيسية في البلاد. وإذ تركزت الصناعات بداية في مجال الصناعات الاستخراجية فإنها مالت إلى التركز في مجال الصناعات التحويلية بعد اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية.
وأطلقت الحكومة العنان لبرنامج خصخصة وانفتاح اقتصادي عام 1988 نجم عنه نوع من البلبلة الاقتصادية الشاملة وبروز طبقة طفيلية. وبسبب محاباة المقربين من رأس النظام وأجهزته عند تطبيق برنامج الخصخصة، فلقد بيعت أكثرية المشاريع إلى مقربين ومتنفذين بشكل فوضوي واعتباطي ودون أي اعتبار للدواعي المالية والاقتصادية وبدون مراعاة احتياجات الاقتصاد العراقي. وتعرضت الصناعة إلى ضربة كبيرة عقب احتلال الكويت وفرض العقوبات الدولية على العراق بسبب حرمان البلاد من العوائد النفطية التي درجت البلاد على استثمار قسط كبير منها في الصناعة، فضلاً عن الدمار الشامل الذي نجم عن الحرب. وشهدت هذه الفترة حتى سقوط النظام السابق ضموراً في نشاط الصناعات الضخمة في مقابل ازدياد نسبة المشاريع الصناعية الصغيرة والمتوسطة، بحيث بلغت نسبة المشاريع الصغيرة التي تشغل أقل من 10 عمال 99% من إجمالي عدد المشاريع الصناعية في البلاد في عام 2001. وقد ضرب الفساد والاهتراء القطاع الصناعي في تلك الفترة بحيث تفاقمت ظاهرة الغش وعدم الالتزام بالمعايير وتنامى عدد المصانع غير المرخصة وضعفت الرقابة الصحية والسيطرة النوعية واستشرى الفساد على أنواعه.
وبعد عام 2003 عانت الصناعة من متاعب جمة. فالتدمير الذي لحق بالمؤسسات الصناعية بسبب العمليات العسكرية وعمليات النهب الواسعة التي طالتها أوقع القطاع الصناعي في مهب التدمير والتراجع. ومنذ ذلك الحين لم تفلح الحلول والسياسات التي اعتمدت في إنقاذ القطاع الصناعي العراقي مما تردى فيه من خراب. وأخفقت الاستراتيجية الصناعية التي أطلقت في عام 2013 في إنعاش الوضع الاقتصادي والقطاع الصناعي في البلاد.
صورة المأزق الصناعي في العراق:
ثمة عوامل عديدة ساهمت في صياغة هذا المشهد المأساوي للصناعة العراقية، ولعل من أبرزها:
• إهمال الخطط الاقتصادية التي عملت عليها الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003 للقطاع الصناعي بحيث لم تخصص الموارد اللازمة لإعادة تأهيل المعامل والمصانع التي تعرضت للترهل والتآكل قبل عام 2033 أو للتدمير والتخريب والنهب بعده. ولعل أبرز شاهد على ذلك هو أن الموازنة التشغيلية كانت دائماً تستحوذ على القسط الأكبر من الميزانية العامة للدولة في قبالة تركز التخصيصات الاستثمارية في قطاعات غير منتجة صناعياً مثل الطاقة والإسكان والصحة والخدمات.
• ضعف التمويل المخصص للبحث العلمي الذي يرفد القطاع الصناعي وعملية تطويره بالدراسات العلمية والفنية والاستشارية ويسهل عملية نقل التكنولوجيا الحديثة واستيعابها في عملية النهوض بالقطاع الصناعي، الأمر الذي أدى إلى تحول الكفاءات البحثية العلمية إلى قطاعات أخرى، مثل التدريس أو حتى العمل في قطاعات بعيدة كل البعد عن الصناعة وعن مؤهلاتها العلمية، أو الهجرة إلى الخارج.
• تدهور الوضع الأمني في البلاد الأمر الذي حول مؤسسات القطاع العام والعاملين فيها إلى أهداف للجماعات الإرهابية والمسلحة الخارجة عن القانون والعصابات الإجرامية. وهذا ما دفع بالعديد من الكفاءات إلى ترك هذه الشركات عبر التقاعد المبكر أو الهجرة إلى خارج البلاد.
• تفشي الفساد الذي يسري في مفاصل الدولة ومؤسساتها في القطاع الصناعي، بقطاعيه الفرعيين العام والخاص، وفي الوزرات والمؤسسات الحكومية المعنية بتطوير هذا القطاع، فضلاً عن تأمين أطراف سياسية الغطاء السياسي والحماية للضالعين بالفساد، الأمر الذي أثر على جودة الإنتاج في العديد من الشركات وأتاح للفاسدين بدون رادع قانوني أو إجراءات عقابية في حقهم أو مساءلتهم.
• ضعف الكفاءة الإدارية عند بعض من يتولى مواقع إدارية في الشركات والمؤسسات الصناعية في القطاع العام وذلك بسبب انسحاب مبدأ المحاصصة الطائفية و الحزبية على عملية انتقاء أشخاص لإسناد مواقع إدارية عليا ووسطية ودنيا لهم في تلك الشركات. وجرى بالتالي إقصاء أصحاب الكفاءات عن تولي هذه المواقع مما أضعف فرص الاستغلال الأمثل للموارد البشرية والطبيعية والفنية وحرم هذه الشركات والمؤسسات من خبرات ومهارات إدارية علمية هي في أمسّ الحاجة إليها.
• اتباع سياسة انفتاح اقتصادي غير مدروسة منذ أن وضعت أسسها سلطة الائتلاف المؤقتة والتي رفعت الكثير من غطاء الحماية عن الصناعة الوطنية والمنتوجات المحلية وفتح الأسواق أمام استيراد السلع من الخارج. وكانت هذه السلع في معظمها متدنية الجودة بحكم عوامل عدة منها موضوعي، مثل ضعف القدرة الشرائية لدى المواطن العراقي، ومنها ذاتي، مثل ضعف عمليات الرقابة والسيطرة النوعية وتفشي الفساد. وأضعف هذا الواقع قدرة الصناعة العراقية على التنافس مع المنتوجات المستوردة.
• انغماس الكتل السياسية في التنافس المحموم بحيث ركزت على تعزيز مواقعها في السلطة ومواقعها الفئوية من دون الاهتمام بسن تشريعات أو صياغة خطط كفيلة بتحقيق نهوض صناعي واقتصادي وبتعزيز الاستثمار في القطاع الصناعي.
انخفاض القدرة الانتاجية للمصانع بسبب
نحو مستقبل أفضل:
• وعلى الرغم من هذا الوضع المزري الذي تردت فيه الصناعة العراقية فإن الوضع ليس ميؤوساً منه. فالعراق يمتلك المقومات اللازمة لتحقيق نهوض في القطاع الصناعي، ولكن ينبغي إزالة المعوقات التي تعرقل إطلاق هذه الإمكانات وتوظيفها على نحو أمثل. وثمة خطوات لا بد منها لبلوغ هذا الهدف، أبرزها:
• العمل على وضع خطط تنموية شاملة تحدد أهدافاً واقعية طويلة المدى وخطوات وأهداف قصيرة ومتوسطة المدى تصب في سبيل تحقيق غاياتها بشكل متناسق وسلس، على أن تشمل هذه الخطط إعادة تأهيل المؤسسات والمعامل الصناعية في القطاع العام، وتوفير بيئة مناسبة ودراسات واستشارات فنية لتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في القطاع الصناعي.
• إيلاء الجانب العلمي اهتماماً في الخطط التنموية بحيث تلحظ تنمية القدرات والكفاءات العلمية والفنية والاستشارية والحيلولة دون هجرة الأدمغة وتقديم الحوافز لها وتوفير موارد كافية تفي بمتطلبات البحث العلمي الجاد والرصين، الأمر الذي سيفيد القطاع الصناعي من خلال الدراسات والخبرات التخصصية.
• سن التشريعات اللازمة لحماية الصناعة الوطنية والعمل على تطبيق القوانين والتشريعات الموجودة أصلاً، مثل قانون التعرفة الجمركية رقم 22 (2010) مما يعزز القدرة التنافسية للصناعات الوطنية العراقية ويحد من المنافسة الجائرة التي تشكلها البضائع المستوردة التي تغرق الأسواق العراقية.
• اتخاذ الخطوات اللازمة لجذب الاستثمار في القطاع الصناعي أمام رأس المال الوطني والأجنبي عبر تسهيل الإجراءات القانونية وتسريع إجرائها وتذليل العقبات الجمركية أمام انسيابية المواد الأولية التي تشكل مدخلات عملية التصنيع والاستعانة بالخبرات الأجنبية ونسج الشراكات مع الشركات الأجنبية مما يؤدي إلى تطوير القطاع الصناعي العراقي واستفادته من قدرة هذه الشركات على نقل التكنولوجيا والخبرات الإدارية والفنية.
• العمل على القضاء على كافة مظاهر الفساد والتشدد في تطبيق معايير الجودة والسيطرة النوعية مما يؤدي إلى تحسين جودة المنتوج الوطني وبالتالي قدرته على التنافس في الأسواق المحلية والخارجية.
• وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وذلك عبر الاعتماد بشكل صارم على معايير الكفاءة والمؤهلات العلمية والفنية والابتعاد عن مبدأ المحاصصة الحزبية والطائفية في التعيينات في القطاع العام الصناعي، والتأكد من التزام شركات القطاع الخاص بمعايير الكفاءة في توظيفها العمال والموظفين.
• الاهتمام بالقطاع الخاص ورفده بأوجه الدعم المالي وبالدراسات الفنية والاستشارية وتقديم التسهيلات له وإقامة شراكات بين شركات القطاع الخاص والقطاع العام انطلاقاً من قاعدة أن المصلحة الوطنية هي مصلحة للقطاعين معاً.
هذه الخطوط العريضة لتطوير القطاع الصناعي في العراق يجب أن تندرج في إطار استراتيجية شاملة للنهوض الاقتصادي في البلاد. وهي بالتالي تتطلب جهوداً لا تقتصر على وزارة الصناعة فحسب، وإنما تستدعي تضافر الجهود والتنسيق بين كافة الوزارات والهيئات المعنية بالشأن الاقتصادي في البلاد. ولئن لم يحتل إنعاش القطاع الصناعي في العراق موقعاً متقدماً في سلم الأولويات الحكومية سابقاً في ظل تنامي تحدي الإرهاب وارتفاع أسعار النفط، فإنه بات الآن ضرورة ملحة وخصوصاً في ظل التداعيات الاقتصادية العالمية لأزمة وباء كورونا وانخفاض أسعار النفط، والتي أدخلت الاقتصاد العالمي كله في مأزق من المتوقع له أن يستمر لسنوات طويلة. لا مناص إذن أمام العراق اليوم من استغلال واستثمار كافة ثرواته وأمكاناته والنهوض بقطاعاته غير النفطية لتأمين متطلبات العيش الكريم بعد سنوات عجاف طويلة.
ـــــــــــــ
https://telegram.me/buratha