حامد كماش آل حسين
11: لقب الفاروق
لقد بلغت ألقاب وفضائل أمير المؤمنين علي «عليه السلام» من الكثرة والشهرة حداً لم يتمكن أعدى أعدائه من إنكارها، رغم كل الجهود التي بذلت في ذلك.
– قال الخليل بن أحمد الفراهيدي(1) وقد سُئل عن الإمام علي «عليه السلام»:
((ماذا أقول في رجل أخفى أعداؤه فضائله حسداً، وأخفاها محبوه خوفاً، وظهر من بين ذين وذين ما ملأ الخافقين)).(2)
– وقال احمد بن حنبل عن الإمام علي «عليه السلام»:
(( لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان ما جاء في علي))(3).
ونتيجة لعدم إمكانية إخفاء هذه الفضائل حاولوا أن يتقاسموها، وينحلوها الى الآخرين، حتى لا تكون خصوصية للإمام علي «عليه السلام»، وهذا دليل على أن كل فضيلة لوحدها تمثل مقاماً رفيعاً، ورغم كل هذه المحاولات بقي الإمام علي «عليه السلام» صاحب الخصوصيات التي لم يشاركه فيها أحد، حيث تميز الإمام علي «عليه السلام» في حياة رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» بعدة مناقب وألقاب، وقد تكلمنا عن:
1. لقب «أمير المؤمنين».
2. لقب «قائد الغر المحجلين».
3. لقب «يعسوب الدين».
4. لقب «أبو تراب».
5. لقب «إمام المتقين».
6. لقب ومنقبة أنه «وليد الكعبة».
7. لقب ووصفه بـــ«السيد».
8. لقب ووصفه بأنه «قسيم الجنة والنار».
9. منقبه وفضيلة أنه «أول من أسلم».
10. لقب « الصديق».
واليوم نتكلم عن لقب «الفاروق»:
الفاروق:
الفاروق هو أحد الألقاب المختصة بالإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام»، لقبه بذلك رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم».
ورغم أختصاص صفة الفاروق بالإمام علي «عليه السلام» إلا ان القوم نحلوها وبدون دليل الى عمر بن الخطاب حيث أدعى هؤلاء اتصاف عمر بها، وانحصار هذا الوصف به، وهذا الكلام باطل، وذلك لأن المتتبع لسيرة عمر بن الخطاب الذي وصفوه بهذه الصفة لم يجده قد فرق حقاً بين الحق والباطل، بل التبست الأمور عليه وخلط في ذلك، والشواهد من كتب الفريقين شيعة وسنة، كثيرة تشهد بذلك، ولا تتطلب من القارئ سوى تحكيم عقله وتجرده فحينها يعرف الحقيقة ومدى بعد هذا الوصف عن عمر.
معنى الفاروق:
الفاروق لغةً: هو من يفرق الحق من الباطل(4).
ويوصف الرجل بالفاروق متى ما فرق بين الحق والباطل، علماً وعملاً، قولاً وفعلًا.
– قال ابن منظور في لسان العرب:
((الفاروق: ما فرق بين شيئين، ورجل فاروق: يفرق ما بين الحق والباطل)).(5)
– قال الراغب الأصفهاني في المفردات في غريب القرآن:
((... وفرقت بين الشيئين فصلت بينهما سواء كان ذلك بفصل يدركه البصر أو بفصل تدركه البصيرة، قال: «فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين»(6) ، «فالفارقات فرقاً»(7) يعنى الملائكة الذين يفصلون بين الأشياء حسبما أمرهم الله وعلى هذا قوله «فيها يفرق كل أمر حكيم»(8)، وقيل عمر الفاروق(9) لكونه فارقاً بين الحق والباطل...)).(10)
– جاء في معجم جمهرة اللغة: ((كل شيء فرق بين شيئين فهو فاروق)).(11)
– قال صاحب شمس العلوم:
((الفاروق، الجذر: فرق، الوزن: فَاعُول، «الفاروق»: الرجل الذي يفرق بين الأمور، وبه سمي عمر بن الخطاب الفاروق(12): لفرقه بين الحق والباطل)).(13)
يتبين مما تقدم وما ورد في الروايات التي سنذكرها ان معنى لقب الفاروق هو الذي يفرق بين الحق والباطل، وهذا المعنى يقتضي أن يكون المسمى بهذا الاسم عارفاً للحق والباطل بكامل حدودهما، وإلا كيف يمكنه التمييز والتفريق بينهما، ولذلك ذكر في معنى الفرقان وهو « أحد أسماء القرآن والتوراة»، وكل ما فرق به بين الحق والباطل، فهو فرقان:
– قال الله تعالى: «تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً»(14).
– وقال الله تعالى: «ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين»(15).
وهذا يعني أن الفاروق لابد أن يكون معصوماً، إذ غيره لا يمكنه أن يميز بين الحق والباطل بصورة مطلقة بحيث يصدق عليه أنه فاروق، وهذه أحدى الدلائل على أن عمر بن الخطاب ليس هو الفاروق لأنه ليس معصوماً، وإضافه الى انه قد وقعت منه حوادث مخالفة للكتاب والسنة، وحتى أنه لم يعرف معاني بعض مفردات القرآن وحفظ سورة البقرة في «12» سنة:
– في تفسير القرطبي:
(... عن عبد الله بن عمر، قال: تعلم عمر سورة البقرة فى «12» سنة فلما ختمها نحر جزوراً ...)(16)
– جهل عمر بكتاب الله:
- (... عن أنس: أن عمر قرأ على المنبر: «فأنبتنا فيها حباً ، وعنباً وقضباً ، وزيتوناً ونخلاً ، وحدائق غلباً ،ً وفاكهة وأبا»(17)، قال: كل هذا قد عرفناه فما الأب، ثم رفض عصا كانت في يده، فقال: هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك أن لا ندري ما الأب اتبعوا ما بين لكم هداه من الكتاب فاعملوا به ومالم تعرفوه فكلوه إلى ربه).(18)
- (... عن أبي حزم بن الأسود: أن عمر أراد رجم المرأة التي ولدت لستة أشهر، فقال له علي: إن الله تعالى يقول: «وحمله وفصاله ثلاثون شهراً»، وقال تعالى: «وفصاله في عامين»، فالحمل ستة أشهر والفصال في عامين، فترك عمر رجمها، وقال: لولا علي لهلك عمر).(19)
- (قام عمر خطيباً، فقال: أيها الناس لا تغالوا بصداق النساء فلو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثني عشر أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت له: يا أمير المؤمنين! لم تمنعنا حقاً جعله الله لنا؟ والله يقول: «وآتيتم إحداهن قنطاراً»، فقال عمر كل أحد أعلم من عمر ...)(20).
والشواهد كثيرة وتحتاج مجلدات، وللمزيد منها راجع كتاب الغدير للأميني(21)، فمن كان هذا شأنه، فكيف يكون هو الفاروق بين الحق والباطل، وأين هو من صاحب اللقب الحقيقي الإمام علي «عليه السلام» القائل:
– (... عن أبي الطفيل، قال: شهدتُ علياً وهو يخطب ويقول: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدَّثتُكم به، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار وأم في سهل أم في جبل ...)(22).
وعليه فإن المتتبع في السير يجد أن صفة الفاروق انفرد بها أمير المؤمنين علي «عليه السلام»، حيث أنه فرق بين ضرورة وجود خلفاء منصوص عليهم بعد النبي وبين أن تترك الأمة سدى تأخذ أحكام شريعتها من حكام عن طريق استحسانات خاطئة، ومصالح مرسلة، وسد ذرائع هاوية، وكما فرّق بين الجنة والنار، حيث الإمام علي «عليه السلام» كان هو قسيمهما، وشهدت بذلك كتب القوم وقد بينا ذلك سابقاً(23).
الأحاديث:
1. عن الإمام الباقر «عليه السلام»: (قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: خذوا بحجزة هذا الأنزع «يعني علياً»، فإنه الصديق الأكبر، وهو الفاروق يفرق بين الحق والباطل، من أحبه هداه الله ومن أبغضه أضله الله، ومن تخلف عنه محقه الله ..)(24).
2. عن أبي سخيلة، قال: (حججت أنا وسلمان، فنزلنا بأبي ذر فكنا عنده ماشاء الله، فلما حان منا حفوف، قلت: يا أبا ذر، إني أرىٰ أموراً قد حدثت، وإني خائف أن يكون في الناس اختلاف، فإن كان ذلك فما تأمرني؟ قال: إلزم كتاب الله عز وجل وعلي بن أبي طالب، فأشهد أني سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: علي أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصديق الأكبر، وهو الفاروق يفرق بين الحق والباطل).(25)
3. عن رسول الله «صلّى الله عليه وآله» قال: (من أراد منكم النجاة بعدي، والسلامة من الفتن فليستمسك بولاية علي بن أبي طالب، فإنه الصديق الأكبر، والفاروق الأعظم، وهو ولي كل مسلم بعدي، من اقتدى به في الدنيا ورد عليّ حوضي، ومن خالفه لم يَرَه ولم يَرَني، فاختلج دوني وأخذ ذات الشمال إلى النار)(26).
4. قال الإمام علي «عليه السلام»: (أنا الصديق الأكبر، وأنا الفاروق الأول، أسلمت قبل إسلام الناس، وصليت قبل صلاتهم).(27)
5. عن ابن عباس، قال: (صديق هذه الأمة علي بن أبي طالب «عليه السلام»، هو الأكبر، والفاروق الأعظم).(28)
6. قال ابن شاذان والخوارزمي وغيرهم: (من ألقاب علي بن أبي طالب «عليه السلام» الفاروق الأكبر).(29)
الى غيرها من الأحاديث والروايات لم نذكرها روماً للأختصار، ومن هنا يتضح أنّ لقب «الفاروق» خاص بأمير المؤمنين علي «عليه السلام»، وأن رسول الله «صلى الله عليه وآله» هو الذي وضعه له وأكد عليه، وعلى هذا فلا يصح إطلاق هذا اللقب على غير الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام».
الأحاديث المؤيدة:
من الأحاديث المؤيدة والمشهورة والأكثر وضوحاً والتي تثبت ان الإمام علي «عليه السلام» هو الفاروق بين الحق والباطل، وكذلك هي من الأحاديث التي تساعد في معرفة الحق والباطل من حيث أنها أحاديث تتعلق في بشخصية الامام علي «عليه السلام»، فقد روي:
– (... عن رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» أنه قال: علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار).(30)
– (... عن أبي ثابت مولي أبي ذر قال: دخلت على أم سلمة، فرأيتها تبكي وتذكر علياً، وقالت: سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» يقول: علي مع الحق والحق مع علي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة).(31)
– (... عن أم سلمة عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، قال: علي مع الحق والقرآن، والحق والقرآن مع علي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض).(32)
وهذا الأحاديث تعني ان الحق كان يتبع الأمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» أينما ذهب، كما وإنه ليس الإمام علي «عليه السلام» فقط يتبع الحق، بل ان الحق كان للإمام علي «عليه السلام» كالظل الذي يرافق الانسان، فلو ان الانسان مشى وجلس ونام فان من الطبيعي ان يتبعه ظله بكل تصرفاته فهكذا كان الحق مع الإمام علي «عليه السلام» يدور معه حيثما دار.
وقد انفرد الإمام علي «عليه السلام» بقول رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» هذا ولم يذكر هذا القول لأحد من الصحابه، لذلك فانه بحسب هذا الحديث يعتبر الإمام علي «عليه السلام» هو الفاروق بين الحق والباطل وهو المعيار لإكتشاف حقيقة الأشياء والأشخاص وكونهم كانوا على الحق أم أنهم يمثلون الباطل، ومن يريد معرفة ذلك يستطيع بسهولة من خلال وضعهما في ميزان الامام علي «عليه السلام» عند ذلك سيكتشف حقيقة كل شيء ويعرف ان كان حقاً أم باطلاً.
وهذا يعني ان ذلك يدل على العصمة، لذلك فأن من دلالات هذا الحديث أنه يدل على عصمة الإمام علي «عليه السلام»، لأن ملازمة الإمام علي «عليه السلام» مع الحق والقرآن يدل على عصمته، لإن القرآن والحق لا يخطئان والإمام علي «عليه السلام» عدلهما، وبذلك يكون هذا واحداً من الأدلة الدامغة على عصمته من الخطأ مطلقاً، وإلا كيف يكون الإمام علي «عليه السلام» مع القرآن والحق وهو غير معصوم فلابد ان يكون الإمام علي «عليه السلام» معصوم، وبالتالي يكون هو الفاروق لأن غيره لم تثبت عصمته.
– يقول الشيخ المفيد:
(وأجمعوا أن النبي «صلى الله عليه وآله»، قال: «علي مع الحق والحق مع علي، يدور حيثما دار»، وليس يجوز أن يكون من هذا وصفه يخطئ في الدين أو يشك في الأحكام).(33)
– يقول الفخر الرازي:
(أما إن علي بن أبي طالب «عليه السلام» كان يجهر بالتسمية(34)، فقد ثبت بالتواتر، ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب «عليه السلام» فقد اهتدى، والدليل عليه قوله «عليه السلام»: اللهم أدر الحق مع علي حيث دار»).(35)
بالإضافى الى ذلك فإن دلالة هذا الحديث على عصمة الإمام علي «عليه السلام» جاءت دون شرط أو قيد في مسألة الحق مع علي، بل جاء الأمر على نحو الأطلاق.(36)
لذلك كانت سيرة الإمام علي «عليه السلام» وفعله مع الحق، في جميع المجالات العلمية، والعملية، والشرعية، والعرفية، والاجتماعية، والأخلاقية، ويستحيل على الإمام أن يرتكب أي خطأ أو معصية، لأن ارتكاب المعصية والخطأ الواحد يؤدي إلى نقض أطلاق حديث رسول الله «صلى الله عليه وآله» في أن الحق دائماً مع علي «عليه السلام»، وبذلك يكون الفاروق حقاً هو الإمام علي «عليه السلام» لأن غيره وقع في العديد من الأخطاء.
شبهات وردود:
سعى الكثير من المنحرفون عن الإمام علي «عليه السلام» الى سرقة الالقاب الربانية للإمام علي «عليه السلام» وخلعها على غيره، فكما أنتحلوا لقب الصديق الى ابي بكر ولقب أمير المؤمنين الى عمر وغيرها من الألقاب الى آخرين، فزعموا هنا أيضاً ان لقب الفاروق هو لعمر بن الخطاب، ووضعوا لذلك عدة آحاديث وروايات باطلة، منها:
1. (عن أيوب بن موسى، قال: قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وهو الفاروق فرق الله به بين الحق والباطل).(37)
2. (عن أبي عمرو ذكوان، قال: قلت: لعائشة: من سمى عمر الفاروق، قالت: النبي: «عليه السلام»).(38)
3. ذكر كثير من المفسرين في سبب نزول قوله تعالى: «ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيداً»(39)، أقوالاً منها رواية مرسلة:
(أن رجلاً من اليهود خاصم رجلاً من المنافقين، فقال اليهودي: نتحاكم إلى أبي القاسم، إذ عرف أنه لا يأخذ الرشوة على الحكم فيحكم بالحق، وقال المنافق: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف، فتحاكما إلى النبي فحكم لليهودي، وكان الحكم له، فقال المنافق: لا أرضى بحكمه، نتحاكم إلى أبي بكر، فتحاكما إلى أبي بكر، فحكم لليهودي بمثل ما حكم رسول الله، فقال المنافق: لا أرضى بحكمه، نتحاكم إلى عمر، فتحاكما إلى عمر، فقال عمر: هل تحاكمتما إلى أحد؟ فقال اليهودي: نعم إلى أبي القاسم، وإلى أبي بكر، وقد حكما لي، وهو لا يرضى، فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل البيت، وأشتمل على السيف، ثم خرج، وضرب عنق المنافق، فبلغ ذلك رسول الله، فقال: أنت الفاروق).(40)
4. (عن النزال بن سبرة الهلالي، قال: وافقنا من علي بن أبي طالب ذات يوم طيب نفس ومزاحاً، فقلنا: يا أمير المؤمنين حدثنا عن أصحابك ... قلنا: حدثنا عن عمر بن الخطاب، قال: ذلك امرؤ سماه الله عز وجل الفاروق فرق بين الحق والباطل سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: اللهم أعز الإسلام بعمر...).(41)
ويرد على كل ذلك أمور:
– أولاً: ما تقدم من معنى الفاروق، فهو يقتضي موافقة الحق دائماً، وهذا المعنى لا يدعيه حتى عمر لنفسه، فقد ثبت في قضايا كثيرة جداً أنه أخطأ فيها الحق، وجانب الصواب، وقد قال فيها غير مرة «لولا عليُّ لهلك عمر» و«كل الناس أفقه من عمر»(42)، وكما ذكرنا سابقاً وغيرها لا يسع المجال ذكرها.
– ثانياً: ما تقدم من طرق الفريقين قول أمير المؤمنين «عليه السلام» أنه هو الفاروق، فكيف يَنسِبُ الإمام ذلك لعمر، وفي حديث المناشدة للإمام يوم الشورى: (قال علي «عليه السلام»: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله «صلّى الله عليه وآله»: أنت الفاروق تفرق بين الحق والباطل، غيري؟ قالوا: لا).(43).
– ثالثا: ما ذكروه في سبب نزول الآية المتقدمة هو أحد الأقوال، وهناك أقوال أخَر لا ترتبط بعمر، بالإضافة إلى وضوح الوضع في هذه الرواية وغيرها من روايات الفضائل التي يأتي فيها «ابو بكر وعمر وعثمان» بالترتيب دائماً، مع استبعاد أن يأتي المتخاصمان إلى عمر في زمن النبي «صلّى الله عليه وآله»، ولو انتبه من وضع هذه الرواية لما يلزم منها لما وضعها، حيث تدل على أن ذلك المنافق عندما رأى حكم النبي «صلّى الله عليه وآله» لصالح خصمه اليهودي، جاء إلى أبي بكر ثم إلى عمر، فلو كانا مشهورين بالعدل والشدة في الحق لما أمَّل فيهما ذلك المنافق من أخذ الرشوة، كما لم يأمل من النبي «صلّى الله عليه وآله».
– رابعاً: إضافة الى ذلك فإن قصة قتل المنافق لا تصح ولم تثبت فلم يسمح النبي «صلى الله عليه وآله» بقتل أحد من المنافقين، وإن ثبتت لا تستحق هذا اللقب.
– خامساً: ويرد على ما روي (عن أبي عمرو ذكوان، قال: قلت: لعائشة: من سمى عمر الفاروق، قالت: النبي)، ان هناك نصوصاً تعارض هذا سنذكرها لاحقاً تؤكد ان التسمية كانت من أهل الكتاب «اليهود».
– سادساً: ما جاء عن سليم بن قيس قال: (جلست إلى سلمان وأبي ذر والمقداد فجاء رجل من أهل الكوفة فجلس إليهم مسترشداً، فقال له سلمان: عليك بكتاب الله فالزمه، وعلي ابن أبي طالب فإنه مع القرآن لا يفارقه، فأنا أشهد إنا سمعنا رسول الله «صلّى الله عليه وآله» يقول: «إن علياً يدور مع الحق حيث دار، وإن علياً هو الصديق والفاروق يفرق بين الحق والباطل»، قال: فما بال القوم يسمون أبا بكر الصديق، وعمر الفاروق، قال: نحلهما الناس اسم غيرهما كما نحلوهما خلافة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وإمرة المؤمنين، لقد أمرنا رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأمرهما معنا فسلمنا جميعاً على علي بأمرة المؤمنين).(44).
من أطلق لقب الفاروق على عمر:
بعد أن عرفنا أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» هو من أطلق لقب الفاروق على الإمام علي «عليه السلام»، يأتي السؤال، من الذي أطلق لقب الفاروق على عمر؟
تؤكد مصادر أهل السنة ان أهل الكتاب «اليهود» هم من لقبوا عمر بن الخطاب بلقب «الفاروق» وأن رسول «صلى الله عليه وآله وسلم» لم يلقب عمر بالفاروق:
– ففي تاريخ المدينة لابن شبه، قال:
(أخبرنا يعقوب بن ابراهيم بن سعد عن أبيه عن صالح بن كيسان، قال: قال إبن شهاب: بلغنا أن أهل الكتاب كانوا أول من قال لعمر الفاروق، وكان المسلمون يؤثرون ذلك من قولهم ولم يبلغنا أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ذكر من ذلك شيئاً).(45)
وهذه الكلام أرسله إبن الأثير مُسلّماً به بعبارة: (وقال إبن شهاب: بلغنا أن أهل الكتاب كانوا أول من قال لعمر الفاروق).(46)
ومن المعلوم ان إبن شهاب الزهري هو فقيه الدولة الاموية ويعتبره أهل السنة هو أعلم علماء «أهل السنة والجماعة» في زمانه، وهو الذي عبر عنه علماء أهل السنة بــ«الأعلم» و«الإمام» و«الحافظ» و«الفقيه» و«الحُجة» و«المتقن» … وغير ذلك، وهو من التابعين الذين التقوا بمجموعة من الصحابة ... وبالتالي فإن الزهري هذا ينفي أن يكون قد ورد عن النبي «صلى الله عليه وآله» نص في تسمية عمر بن الخطاب بــ«الفاروق»، بل يقول إن الذي بلغه أن أهل الكتاب هم الذين بدؤوا بهذه التسمية، وقد رضي المسلمون «أهل السنة والجماعة» هذه التسمية وأخذوها من قول أهل الكتاب اليهود، وذكر هذا القول أيضاً الطبري في تاريخه:
– قال إبن جرير الطبري في تاريخه:
(... وكان يقال له الفاروق، وقد اختلف السلف فيمن سماه بذلك، فقال بعضهم سماه بذلك رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وقال بعضهم أول من سماه بهذا الاسم أهل الكتاب).(47)
وبعد هذا فمن العجب قول صاحب متن اللغة:
– ((الفاروق: الذي يفرق بين الشيئين، لقب عمر بن الخطاب، لأنه أظهر الإسلام بمكة ففرق بين الكفر والإيمان)).(48)
ولنا هنا أن نتسائل كيف اظهر عمر إسلامه وهو الذي كان خائفاً، متخفياً في داره بعد أسلامه، فقد روي في صحيح البخاري:
– (... عن عبد الله بن عمر عن أبيه «يعني عمر بن الخطاب»، قال: بينما هو في الدار خائفاً إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو، عليه حلة حبرة وقميص مكفوف بحرير وهو من بني سهم وهم حلفاؤنا في الجاهلية، فقال: له ما بالك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلونني إن أسلمت، قال: لا سبيل إليك، بعد أن قالها، أمنت، فخرج العاص فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ فقالوا: نريد هذا ابن الخطاب الذي صبأ، قال: لا سبيل إليه فكر(49) الناس).(50)
هذا حال عمر عندما أسلم فكيف اظهر الإسلام بمكة ففرق بين الكفر والإيمان، وحتى ان حديث هجرته كانت بسرية ومتخفياً، ففي سيرة ابن هشام في هجرة عمر وقصة عياش وهشام معه:
– (قال ابن إسحاق: ثم خرج عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة المخزومي، حتى قدما المدينة، فحدثني نافع مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب، قال: اتعدت(51)، لما أردنا الهجرة إلى المدينة، أنا وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السهمي التناضب(52) من أضاة بني غفار(53)، فوق سرف(54)، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه، قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنا هشام، وفتن فافتتن).(55)
فالرواية تشير الى انهم تواعدوا بمكان يبعد عن مكة عشرة اميال وقالوا من يحبس يمضي صاحباه، اي أنهم كانوا يخافون الحبس وهذا ينافي الخروج جهراً.
أقرأ وأبكي أو أقرأ وأضحك فشر البلية ما يضحك.
الشواهد الشعرية:
1. السيد الحميري:
ذكـــرت إمـــرأً فـــر عـــن مــرحب ..... فـــــرار الحـــمار مـــن القـــسـور
فـــأنـــكر ذاك جـــلـــيــــس لـــكـــم ..... زنـــيم أخـــو خـــلــــــق أعـــــــــور
لحـــاني بحـــب إمــام الـــهــــــدى ..... وفـــاروق أمـــتـــنـــا الأكــــــبــــــر
ســــــأحـــلــــــــــــق لحيــــــتـــه إنــهـــا ..... شـــهـود عـــلـــى الزور والمنكر
2. ابو محمد العوني:
قال في قصيدته المعروفة بالمذهبة:
وهـــــو فريق بلســـــان الأرمن ..... فــــــــــــــــاروقه الحــــق لكل مؤمن
تعـــــرفه أعـــــلامهم في الزمن ..... فاسأل به إن كنت ممن يعتني
تحـــــقيـــــقه مـــــن كان أرمنيا
3. ابن حماد العبدي:
أخـــــذ الإله عـــــلى البــــرية كلـــــــــــــــها ..... عـــــهدا لـــــه يــوم (الغدير) وثيقا
وغــــداة واخى المصطفى أصحـــابه ..... جعــل الـوصي لــه أخا وشقيقا
فرق الضلال عن الهدى فرقى إلى ..... أن جــــاوز الجــــــوزاء والعــيوقا
ودعـــــاه أمـــــــــلاك السماء بأمـــــر من ..... أوحـــــى إليهـــم حــيدر الفاروقا
4. ابو القاسم الزاهي:
دع الشنـــاعات أيـــها الخدعه ..... واركـن إلى الحق وأغد متبعه
مـــــن وحــــــــــــد الله أولا وأبــــــى ..... إلا النـــــبي الأمـــــــــــــــي واتـــبعه
من قال فـيه النبي: كان مع ..... الحـق علي والحـــــــق كان معه
5. كمال الدين الشافعي:
وإن عـــــلياً فـــــي الخــصام مــؤيد ..... لـــــه الحـــــق فيـــــما يــدعي ويقول
فمـــــاذا تـــــردون الجــــواب عليهم ..... وليـــــس إلـــــى تـــرك الجواب سبيل
6. ابو محمد المنصور بالله:
أحــــــاط بالتــــــوراة والانجـــيل ..... وبالــــــزبور يــــــا ذوي التفـــضيل
عـلماً وبالــقرآن ذي التـــــنزيل ..... فـــــي قــــــوله المصدق المقبول
بل أيهم قال له: الحق معه ..... وهـو مع الحق الذي قد شرعه
والحمد لله رب العالمين وصلى الله هلى محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين ...
الهوامش:
(1). هو الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري الازدي «100هـ ــــ170هـ» 718م ــــ 786م» اللغوي والنحوي الشهير صاحب العروض، وصاحب أول وأقدم قاموس للغة العربية باسم كتاب العين، توفي في حكم هارون العباسي.
(2). تنقيح المقال ج1 ص403، سيرة الأئمة الاثني عشر لهاشم الحسني ج1ص145 ، الإمامة في ضوء الكتاب والسنة لمهدي السماوي ص229 ، وفي الكنى والألقاب للقمي ج2 ص349 نسبه للشافعي ، وفي المناقب للخوارزمي ص8: عن بعض الفضلاء ولم يسميه.
(3). فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي للمغربي ص20، الصواعق المحرقة لأبن حجر ص118، إسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص149، الرياض النضرة لمحب الدين الطبري ج2 ص282.
(4). معجم المعاني، مادة «فرق».
(5). لسان العرب لأبن منظور مادة «فرق».
(6). سوة المائدة: الآية/ 25.
(7). سورة المرسلات: الآية/ 4.
(8). سورة الدخان: الآية/ 4.
(9). سيتبين لنا لاحقاً عدم صحة هذا الأدعاء.
(10). مفردات غريب القرآن للراغب الأصفهانى ص٣٧7.
(11). معجم جمهرة لأبن دريد ج2 ص1206.
(12). تكرار هذا الأدعاء والذي سنبين كذبه يذكرني بقول جوزيف غوبلز بوق الإعلام النازي في عهد هتلر: «اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس».
(13). شمس العلوم لنشوان بن سعيد الحميري توفي 573ه.
(14). سورة الفرقان: الآية /1.
(15). سورة الأنبياء: الآية/ 48.
(16). تفسير القرطبي ج1 ص34 ، وراجع: سيرة عمر لابن الجوزي ص165 ، شرح لابن أبي الحديد ج3 ص111 ، الدر المنثور للسيوطي ج1 ص21.
(17). سورة عبس: الآيات/ «27 - 28 - 29 - 30 – 31».
(18). الدر المنثور للسيوطي ج8 ص421، وراجع: المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ج2 ص514، كنز العمال للمتقي الهندي ج2 ص328.
(19). تفسير الرازي ج٧ ص٤٨٤، مناقب الخوارزمي ص٥٧، الدر المنثور للسيوطي ج١ ص٢٨٨ ، كنز العمال للمتقي الهندي ج٣ ص٩٦.
(20). تفسير الكشاف للزمخشري ج١ ص٣٥٧، شرح صحيح البخاري للقسطلاني ج٨ ص٥٧.
(21). للأطلاع على بعض تلك المسائل، راجع: كتاب الغدير في الكتاب والسنة والأدب للشيخ للأميني ج6 ص84 حيث ذكر«100» نادرة ومسألة اخطأ فيها عمر.
(22). فتح الباري شرح صحيح البخاري لأبن حجر العسقلاني ج8 ص459، الاتقان للسيوطي ج4 ص233 ، تفسير عبد الرزاق الصنعاني ج2 ص241 ، الاصابة في معرفة الصحابة لأبن حجر ج4 ص467.
(23). راجع: مقالنا رقم«8»: من مناقب وألقاب الإمام علي «عليه السلام» 8. قسيم الجنة النار، المنشور على موقع براثا في 18 / 11/ 2021.
(24). بصائر الدرجات للصفار ص74، الإمامة والتبصرة لوالد الشيخ الصدوق ص111، بشارة المصطفى للطبري ص327.
(25). فضائل أمير المؤمنين علي «عليه السلام» لابن عقدة الكوفي ص۱۹ ، تاريخ دمشق لأبن كثير ج۲۳ ص۳۲ ، كنز العمّال ج۱۱ ص٦۱۲ ، مجمع الزوائد ج۹ ص۱۲٤.
(26). اليقين لابن طاووس ص٤۹۷.
(27). سنن ابن ماجة ج۱ ص٤٤ ، تاريخ الطبري ج۲ ص۳۱۰ ، فرائد السمطين ج۱ ص۲٤۸ ، المستدرك للحاكم ج۳ ص۱۱۱ ، ميزان الاعتدال ج۳ ص۱۰۱ ؛ خصائص النسائي ص۲۹.
(28). نهج الإيمان ص٥۱۳ ، اللوامع النورانية ص٤۳٤.
(29). الفضائل لابن شاذان ص۱۷٤ ، المناقب للخوارزمي ص٤۰ ، تنبيه الغافلين ص۱٤٦ ، معجم الآداب في مجمع الألقاب ج۲ ص٤۸٦ ، مناقب آل أبي طالب ج۳ ص۳۲۹ ، العسل المصفى ج۲ ص۳۷۱.
(30). الفصول المختارة ص١٣٥ ، إعلام الورى ج١ ص٣١٦، الفضائل لابن شاذان ص١٢٣ ، صحيح الترمذي ج3 ص166 ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج14 ص312.
(31). تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج14 ص322 ، تاريخ دمشق لإبن عساكر ج42 ص449.
(32). ربيع الأبرار للزمخشري ج1 ص828 ، فرائد السمطين للحمويني ج1 ص177 ، المستدرك على الصحيحين للحاكم ج3 ص134.
(33). الفصول المختارة للشيخ المفيد ص339.
(34). يجهر بالتسمية: يعني يجهر بالبسملة «بسم الله الرحمن الرحيم».
(35). تفسير الرازي ج1 ص207.
(36). الإمامة وأهل البيت «عليه السلام» للسيد محمد باقر الحكيم ص225.
(37). الطبقات الكبرى لأبن سعد ج٣ ص٢٧٠.
(38). الطبقات الكبرى لأبن سعد ج٣ ص٢٧1 ، تاريخ المدينة لأبن شبة ج2 ص662 ، تاريخ الطبري ج4 ص195.
(39). سورة النساء: الآية/ 60.
(40). ذكره الرازي في تفسيره ج10 ص153 ونسبه إلى كثير من المفسرين ، وراجع تفسير البغوي ج1 ص655.
(41). الشريعة للآجري ج5 ص2333 ، تاريخ دمشق لأبن كثير ج44 ص50.
(42). مجمع الزوائد للهيثمي ج4 ص284، شرح النهج للمعتزلي ج1 ص182، كنز العمال للمتقي الهندي ج16 ص538 ، الدر المنثور للسيوطي ج2 ص133 وغيرها.
(43). الاحتجاج للطبرسي ج1 ص204.
(44). الاحتجاج للطبرسي ج1 ص230، كتاب سليم بن قيس الهلالي ص402.
(45). تاريخ المدينة لأبن شبه ج2 ص662، الطبقات الكبرى لأبن سعد ج3 ص270.
(46). أسد الغابة في معرفة الصحابة لأبن الأثير ج4 ص57.
(47). تاريخ الطبري ج4 ص195.
(48). معجم متن اللغة لأحمد رضا، مادة «فرق».
(49). فكرّ الناس: «بتشديد الراء» أي رجعوا.
(50). صحيح البخاري ج٤ ص٢٤٢.
(51). اتعدت: اتَّعَدَ القوم، بمعنى وَعَدَ بعضهم بعضاً، أي أنهم تواعدوا على مكان معين.
(52). التناضب: جمع قلة للتنضبة شجرة برية معروفة، ضرب من الشجر تألفه الحرباء.
(53). أضاة بني غفار: هي الغدير يجمع من ماء المطر، موضع على عشرة أميال من مكة، وغفار: قبيلة من كنانة.
(54). سرف: موضع على ستة أميال من مكة.
(55). سيرة ابن هشام ج2 ص85 ، وصححها ابن حجر في الاصابة ج3 ص602 ، وصححها الهيثمي في مجمع الزوائد ج6 ص61.
https://telegram.me/buratha