الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية لمؤلفه الشيخ جلال الدين الصغير: العصمة وضرورات الهداية الربانية: خلق الله المكلّف بمهمة محددة هي عبادته جلّ وعلا، وذلك وفقاً لما أشار إليه قوله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات 56)، وهذا التكليف المجهّز بخيار الاختيار الإرادي، حيث لا يمكن تعقّل وجود التكليف من دون هذا الخيار، قد وضع على مفترق طريقين لا ثالث لهما : "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً" (الانسان 3) وطريقا الشكر أو الكفر هما فيالواقع نتاج تركيبة محتواه الخَلْقي، المعبّر عنه تارة عن خليط الروح الإلهية مع عنصر التكوين الآخر كالطين في حال البشر، والنار في حال الجن، وأخرى باعتبار ان نفسه قد ألهمت بخيارين متناقضين هما خيار التقوى أو الفجور "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" (الشمس 7-8). والسؤال الذي يطرح تلقائياً يتعلّق بالكيفية التي سيقطع بها هذا المكلّف طريق التكليف كي يحقق الغاية الربانية؟ لا سيّما وأن عالم التكليف لا يجري في ساحة نائية عن المعوّقات التي تعترض هذه المهمة، بل يطرح القرآن خمسة معوّقات أساسية يمكن لها أن تصدّ المكلّف عن القيام بما طلب منه ، وهذه المعوّقات نلخّصها بالتالي: 1 ـ الجهل: وهو عنصر يمكن أي يطيح بأكبر المشاريع الإنسانية، وهو بالتالي سيكون عنصراً مضاداً وبشكل فاعل العملية "وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ" (الانعام 119). 2 ـ أهواء النفس : وهذه الأخرى تمثل أحد المعوّقات الكبرى والرئيسة القادرة على إشغال المكلّف وابعاده عن مسار الهداية الربانية ، كيف لا؟ وقد وصفها القرآن بانها يمكن أن تصنع من نفسها إلهاً يبعد الإنسان عن ربه كما في قوله تعالى: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً" (الجاثية 23). 3 ـ الشيطان الرجيم: وهو كما وصفته الآية الكريمة: "أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ" (يس 60). 4 ـ إغراءات عالم التسخير ، فهذا الكون الذي سخّر لهذا المكلّف يقدّم إغراءات جمّة للتناحر والإفساد ، وهذه الإغراءات يمكن أن تكون هي موضع إغواء الشيطان وخداع أهواء النفس، إذ بدونها يفقد الشيطان الكثير من إمكانيات الوسوسة، وتفقد قابليات أهواء النفس الكثير من مثيراتها. 5 ـ العلاقات في ساحة التكليف، وما تفرضه بعض أنواع العلاقات من تقليب الأمور على المكلّف بحيث لا يبصر طريق الهدى وسط إثارة أهواء النفس، وهذا النمط من العلاقات هو أحد العوامل الأساسية التي أطاحت بإبليس، فلقد كان عابداً لله، ولكن ما أن طرأ عنصر علاقة جديدة في ساحة التكليف حتى سقط في مهاوي أهواء النفس. وهذا العنصر مثله مثل الذي سبقه يمثل أحد الوسطين الذي تتفاعل بسببهما اغواءات الشيطان وأهواء النفس.
وعن العصمة وضرورات الهداية الربانية يقول الشيخ جلال الدين الصغير: فنمط التسخير وإغراءاته هي التي جعلت الملائكة تستثار لوجود مخلوق بهذا التركيب وسط هذه الإغراءات فقالت قولتها المعروفة: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" (البقرة 30)، ونمط العلاقات هو الذي منح الشيطان الأرضية اللازمة لتحقيق وسوسته كما يتراءى لنا ذلك في قصة آدم عليهالسلام "فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ" (الاعراف 20). ومن عدل الله سبحانه وتعالى مع خلقه انه ما كان ليتركهم دون مناهج هداية تبعدهم عن هذه المؤثرات أو تحجّمها ، وبالتالي لتدفعهم نحو الغاية الربانية ، لهذا كان مقتضى عدله ، أنه ألزم نفسه بأن يرسل لهم مناهج هداية تدفع بهم نحو الهدى ، وتدراً عنهم الضلال كما يصوّرها القرآن الكريم : "مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" (الاسراء 15) وقد أنجز الله ما وعد اله ما وعد فأرسل "رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً" (النساء 165) ووصف عملية الإرسال بأنها رحمة "وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (الاعراف 52). ومن الواضح أن هؤلاء الرسل طالما انهم أرسلوا بهذه المهمة فسيلزم أن تكون طاعتهم واجبة على من أرسلوا إليه ، وبموجب هذه الطاعة ستتم محاسبتهم ومكافأتهم كما قال الله تعالى: "تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ" (النساء 13-14) لأن هذه الطاعة ستكون هي سبيل تكامل الرحمة التي وعدت بها عملية الهداية الربانية كما توضح الآية الكريمة: "قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ" (النور 54)، كما يلزم أن يكونوا في موضع الأسوة والقدوة لبقية المكلّفين "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ" (الممتحنة 6).
واستطرد الشيخ الصغير قائلا: وطالما أن هذه الطاعة واجبة على المكلّف ، وأن التأسّي بهم واجب، فإن ذلك يستلزم الأمور التالية كحقوق طبيعية لهذا المكلّف تفرضها طبيعة الحجة الإلهية البالغة: 1 ـ صدق المرسلين وصوابهم الكامل في ما يبلّغونه عن الله تعالى، وذلك لأنهم لو لم يكونوا واجبي الصدق، لكان ما يبلّغونه عن الله إما صدقاً وصواباً ؛ وإما كذباً وخطأً ، فإن كان صادقاً ومصيباً فبه، وإن كانت الثانية فكأن الله لم يلتزم بما ألزم نفسه فيه، فلقد التزم بعدم محاسبة الخلق حتى يبعث لهم رسولاً، فإذا كان هذا الرسول كاذباً أو أبلغهم بالخطأ فكأنه لم يرسل إليهم رسولاً. ولهذا وصف النص القرآني عملية التبليغ بالصفاء الكامل والصدق الكامل ، فالرسول لا ينطق ـ حين ينطق ـ إلا عن وحي السماء الذي لا يمكن أن يلتقي في قلب يعمره هوىً غير هوى الله سبحانه "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى" (النجم 3-4) لأنها لا تحتمل غير ذلك الصدق ، فبدونه ينتفي وجود الرسول: "وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ" (الحاقة 44-47). 2 ـ إلتزام المرسلين الكامل بما أرسلوا به ، فعدم الالتزام من قبلهم يقدح مرة بالذي أرسلهم ؛ فالرسالة إما أن تكون قابلة للتطبيق ، فالمطلوب أن ترسل بيد من يلتزم بها وهو مقتضى حكمة المرسل ، فإن لم يكن جديراً بذلك ، وكان ثمة من هو أجدر منه ، فالأجدر أولى بالرسالة من الذي لا جدارة لديه ، وهذا مقتضى عدل المرسل. ويقدح أخرى بهم لأنه يسلبه مصداقية الرسالة من جهة ، ولأن الأمر الإلهي سيتناقض كما رأيناه في الأمر الأول لأن الخلق مكلّف بالتأسي بالرسول ، فهل يتأسون بمخالفته لرسالته؟ ولهذا تجد النص القرآني في الوقت الذي يشخّص فيه وجوب التأسي والاقتداء بالأنبياء والمرسلين كقوله سبحانه وتعالى في حديثه عن الأنبياء: "أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ" (الانعام 89-90) وكذا قوله تعالى: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" (الاحزاب 21) فإنه يسمي هذا الرسول بالرحمة النازلة على العالمين "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ" (الانبياء 107) ولا يمكن للرسول أن يكون رحمة للعالمين إلا من خلال توافق سلوكه مع الرسالة.
https://telegram.me/buratha