الصفحة الإسلامية

مفهوم العصمة في القرآن الكريم عند الشيخ جلال الدين الصغير من كتابه عصمة المعصوم (ح 12)


الدكتور فاضل حسن شريف

عن البعد التأريخي وعلاقته مع امتداد المعصوم يقول الشيخ جلال الدين الصغير: ولو نظرنا إلى الواقع الموضوعي للشأن الرسالي في بعده التاريخي، لوجدنا أن الضرورة الرسالية بوجود الامتداد المعصوم يوم توفي الرسول صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله كانت في أكثر أحوال وجودها إلحاحاً. فلو أخذنا نموذج العلم في صورته البسيطة لا المعقدة، لوجدنا ان بعضاً من علية الصحابة وأكابرهم كانت لديهم ما يشبه الأميّة في فهم مفردات الكلمات القرآنية، فضلاً عن معمّيات مسائل الآيات، فمثلاً تمثّل قضية تفسير كلمة الكلالة الواردة في الآية الكريمة: "يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيمٌ" (النساء 176) انموذجاً له دلالته البالغة على طبيعة الأوضاع العلمية السائدة عشية موت الرسول صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله، إذ يفترض بمجتمع الصحابة الذي نزل القرآن في جنباته، وبلغته وبيانه، أن يدرك المعاني الارتكازية للغة الآيات تلقائياً ، أو أن يكون سؤولاً في ما لا يفقه من هذه المعاني، غير ان المتأمل سيرى ان الصورة التي تركها هذا المجتمع كانت مختلفة تماماً، فعلى الرغم من وضوح الآية في تبيان معنىالكلالة، ورغم أن المسألة من المسائل البسيطة جداً على مستوى الشأن العلمي، فإنك تجد نفسك مجبراً على الانبهار، وأنت تسمع اختلاف الصحابة في تفسيرها فتجد أن أبابكر يفسّرها بهذه الطريقة: إني سأقول فيها برأيي فإن يك صواباً فمن الله، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، أراه ما خلا الولد والوالد.

قدم الشيخ الصغير عن اختلاف التفاسير من قبل الصحابة عن معنى الكلالة واستطرد قائلا: كل ذلك مجرد عيّنات انتخبت بصورة عشوائية لتبيان موقف المسلمين من شؤون بسيطة متعلّقة بـ (الكتاب ـ الحجة) ، فهل يمكن تصوّر الحجة الربّانية الموصوفة بـالبالغة أن تعتمد في إتمام نعمتها على الناس ، وإكمال دينها على وعي هو في أحسن صوره ناقص للغاية في فهم مفردات الكتاب اللغوية فضلاً عن معمّياته وألغازه التي لا زالت العقول حائرة في الوصول إلى شيء منها؟ ثم أين القوم في اختلافاتهم من صريح القرآن بأن ثمة هادياً لكل قوم بعد تمام إنذار الرسول صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله؟ لأن هذه الاختلاف ما كانت لتكون مع وجود الهادي. إن كل ذلك يفضي إلى حقيقة موضوعية هي: إن امتداد العصمة زمنياً بعد الرسول صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله يمثّل ضرورة عقلية هي ليست بأدنى من حيث الأولوية من ضرورة إرسال الرسل والأنبياء ، وهي ضرورة أفصحت عنها الآيات القرآنية بأكثر من مناسبة وبصور متعددة، كما لمسنا ذلك من قبل. ولو جئنا إلى التطبيق العملي لمورد هذا الامتداد الرسالي، فإن أي متعصّب مهما بلغ في تعصّبه لن يجد الأمر بعيداً ضمن موازين القرآن ومقتضيات آياته عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام، فمهما قال القائلون في شأن نزول الآيات القرآنية التالية، فإنهم لن يخرجوا في أسوأ الأحوال أئمة أهل البيت: عنها: 1 ـ قوله تعالى: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً" (الاحزاب 33). 2 ـ قوله تعالى: "ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ" (الشورى 23). 3ـ قوله تعالى: "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" (المائدة 55). 4ـ قوله تعالى: "فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ" (ال عمران 61). 5ـ قوله تعالى: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً * إِنَّ هذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً" (الانسان 8-22). أما لو تحدّثنا عن الإنسان المنصف فلن يجد في الآيات التي ذكرناها في امتداد العصمة أن هذه الآيات تعني غيرهم صلوات الله عليهم أجمعين.

وعن نشأة العصمة يقول الشيخ جلال الدين الصغير: ولكن قبل أن نلاحق ذلك يجدر بنا التوقف عند مسألة أخرى تتعلق بجانب آخر من المساحة الزمنية للعصمة، وأعني بذلك مسألة العلاقة بين العصمة وعمر المعصوم ، فمتى يكون المعصوم معصوماً؟ ويثار هذا الموضوع من جهتين، فمن جهة يثيره الذي يربط بين التبليغ والعصمة ، فيجد أن النبي قبل التبليغ لا عصمة له ، وشأنها إنما يتحقق بعد التبليغ، ومن جهة يثار هذا الموضوع في الردّ على الفكرة القائلة بأن المعصوم معصوم حال ولادته، ولا دخل لمرحلة زمانية بنشوء العصمة لديه. وما نذهب إليه هو : إن الدليل القرآني ومجموع ما توصلنا إليه يقف إلى جانب أن يكون المعصوم معصوماً حال ولادته ، ولا قيمة للرد القائل بأن الظاهر القرآني يقف على الخلاف من ذلك لقوله تعالى: "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً" (النحل 78) فهي دالة على إن الإنسان يولد حين يولد وهو لا يعلم بأي شيء، بينما العصمة هي حالة علمية واعية بكل شيء، وعدم قيمة هذا الرأي واضحة لكونه يغفل تخصيصات القرآن ففي قوله تعالى: ( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً" (مريم 29-30) يخصص هذا الاطلاق ويضرب المثل بعيسى عليه‌السلام الذي جعله نبياً ولما يزل في المهد صبياً ، ومن الواضح أن النبوة أعلى درجة من العصمة، ونظيرها قوله تعالى في شأن نبوة يحيى عليه‌ السلام: "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً" (مريم 12). وليس في هذا المثل أي إعجاز اللهمّ إلاّ ما يراه الناس في صورة غير مألوفة لديهم فيتصوروه إعجازاً، بينما من يلحظ سياقات الكمال الروحي المطروحة في القرآن يجد أن هذا الكمال يمكن أن يذهب بالإنسان إلى درجة أعلى من ذلك بكثير، فالقرآن يطرح قضية الكمال الروحي في مستطاع كل يد ، ولكنه يشرط هذه الاستطاعة بجملة من العوامل التي تجعلها عصية على الكثير من الناس الذي رزحوا في عالم الظلمات والذنوب. ففي قوله تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ" (الاعراف 172) يطرح القرآن حقيقة أن الإنسان قد عرض عليه شيء ما وهو في عالم الذر كي يكون شاهداً عليه ، ومن مواصفات هذا الشيء انه جعل الإنسان يسلّم بصورة فورية بربانية الله كما يظهر من طبيعة استخدام كلمة «بلى» والتي لا تستخدم إلاّ في الأمور المسلّم بها بديهياً ، على خلاف كلمة «نعم» التي تستخدم في أجوبة البراهين والاستدلالات، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن استحضار هذا الشيء ينفي عن الإنسان الغفلة عما شاهده وشهد عليه، كما تشير خاتمة الآية الشريفة.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
آخر الاضافات
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك