الدكتور فاضل حسن شريف
قال الله تعالى عن البصر "إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا" ﴿مريم 42﴾ يبصر فعل، إذ قال لأبيه آزر: يا أبت لأي شيء تعبد من الأصنام ما لا يسمع ولا يبصر، ولا يدفع عنك شيئًا من دون الله؟ و "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ" ﴿البقرة 17﴾ يبصرون: يبصر فعل، ون ضمير، وتركهم في ظلمات لا يبصرون: ما حولهم متحيرين عن الطريق خائفين فكذلك هؤلاء أمِنوا بإظهار كلمة الإيمان فإذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب، حال المنافقين الذين آمنوا ظاهرًا لا باطنًا برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم كفروا، فصاروا يتخبطون في ظلماتِ ضلالهم وهم لا يشعرون، ولا أمل لهم في الخروج منها، تُشْبه حالَ جماعة في ليلة مظلمة، وأوقد أحدهم نارًا عظيمة للدفء والإضاءة، فلما سطعت النار وأنارت ما حوله، انطفأت وأعتمت، فصار أصحابها في ظلمات لا يرون شيئًا، ولا يهتدون إلى طريق ولا مخرج، و "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَـٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" ﴿الأعراف 179﴾ أبصر: انتظر و تريِّث. يُبصرون: ينتظرون، لا يُبْصِرونَ بها: لا يبصرون آيات الله في الكون، ولهم أعين لا يبصرون بها: دلائل قدرة الله بصر اعتبار، ولقد خلقنا للنار التي يعذِّب الله فيها مَن يستحق العذاب في الآخرة كثيرًا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يعقلون بها، فلا يرجون ثوابًا ولا يخافون عقابًا، ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته، ولهم آذان لا يسمعون بها آيات كتاب الله فيتفكروا فيها، هؤلاء كالبهائم التي لا تَفْقَهُ ما يقال لها، ولا تفهم ما تبصره، ولا تعقل بقلوبها الخير والشر فتميز بينهما، و "أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ۖ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۗ قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ" ﴿الأعراف 195﴾ ألهذه الآلهة والأصنام أرجل يسعَوْن بها معكم في حوائجكم؟ أم لهم أيدٍ يدفعون بها عنكم وينصرونكم على من يريد بكم شرًا ومكروهًا؟ أم لهم أعين ينظرون بها فيعرِّفونكم ما عاينوا وأبصروا مما يغيب عنكم فلا ترونه؟ أم لهم آذان يسمعون بها فيخبرونكم بما لم تسمعوه؟ فإذا كانت آلهتكم التي تعبدونها ليس فيها شيء من هذه الآلات، فما وجه عبادتكم إياها، و "وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ" ﴿الأعراف 198﴾ لا يبصرون: لعدم قدرتهم على الإبصار، وإن تدعوا أيها المشركون آلهتكم إلى الاستقامة والسداد لا يسمعوا دعاءكم، وترى أيها الرسول آلهة هؤلاء المشركين مِن عبدة الأوثان يقابلونك كالناظر إليك وهم لا يبصرون، لأنهم لا أبصار لهم ولا بصائر، و "وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ۚ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ" ﴿يونس 43﴾ ومِنَ الكفار مَن ينظر إليك وإلى أدلة نبوتك الصادقة، ولكنه لا يبصر ما آتاك الله من نور الإيمان، أفأنت أيها الرسول تقدر على أن تخلق للعمي أبصارًا يهتدون بها؟ فكذلك لا تقدر على هدايتهم إذا كانوا فاقدي البصيرة، وإنما ذلك كلُّه لله وحده، و "أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ۘ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ۚ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ" ﴿هود 20﴾ وما كانوا يبصرون أي لفرط كراهتهم له كأنهم لم يستطيعوا ذلك، أولئك الكافرون لم يكونوا ليفوتوا الله في الدنيا هربًا، وما كان لهم مِن أنصار يمنعونهم من عقابه. يضاعَفُ لهم العذاب في جهنم، لأنهم كانوا لا يستطيعون أن يسمعوا القرآن سماع منتفع، أو يبصروا آيات الله في هذا الكون إبصار مهتد، لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين.
آيات البصيرة والبصائر تشير الى الروح والنفس والأخلاق بينما يذهب البصر و الابصار الى الحس الجسماني والعين. من الامثلة الدعوة تحتاج إلى البصيرة كما قال تعالى: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي" (يوسف 108) والدعوة مع بصيرة موجهة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليكون شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا كما قال الله عز من قائل "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا" (الاحزاب 45-46) فالدعوة ببصيرة يحتاج قبلها الشهادة والبشارة والانذار. وحتى تكون الدعوة ببصيرة يتطلب من صاحبها ان يدعو الى الرحمة وان يكون صاحب اخلاق عالية صادرة من قلب بصير وصدر شرح "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ" (الشرح 1) ليس فيه غلظة كما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صاحب القلب البصير "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" (ال عمران 159). فالقلب والصدر لهما علاقة بالبصيرة. ومبعث الرسول محمد صلى الله عليه واله وسلم منة ربانية ليكون الناس على بصيرة من أمرهم كما قال الله سبحانه "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوعَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" (ال عمران 164). وحتى يكونوا على بصيرة فكان صلى الله عليه وآله وسلم احرص على قومه من انفسهم رؤوف رحيم "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" (التوبة 128). بينت سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام الآية المباركة التوبة 128 في خطبتها ليكون الناس على بصيرة من أمرهم (أيها الناس اعلموا أني فاطمة وأبي محمد صلى الله عليه واله. أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلط، ولا أفعل ما أفعل شطط، "قَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (التوبة 128)). فبصيرة الانسان تنجذب لصاحب الاخلاق الرفيعة فبواسطة رسول الاسلام صاحب الاخلاق السامية انجذب الناس الى رسالته. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إن أحبكم إلي وأقربكم مني يوم القيامة مجلسا أحسنكم خلقا وأشدكم تواضعا وإن أبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون وهم المستكبرون)، و (أول ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة حسن خلقه). والذي يزور الامام الحسين عليه السلام يقول عند دخوله المرقد الشريف (السلام عليك يا من مضى على بصيرة من أمره مقتدياً بالصالحين ومتبعاً للنبيين) فكيف لا وجده سيد المرسلين والنبيين صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الاخلاق السامية والبصيرة الثاقبة. فزائر الحسين عليه السلام لابد ان تزداد بصيرته عند زيارته لمرقده الشريف ويكون اكثر سموا في الاخلاق والتضحية.
عن الرضا عليه السلام في قوله تعالى: "وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ" ﴿البقرة 17﴾ قال عليه السلام (إن الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه لكنه متى علم إنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف وخلى بينهم وبين اختيارهم).
جاء في الميزان في تفسير القرآن للعلامة الطباطبائي: قوله تعالى "وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ" (الذاريات 21) معطوف على قوله "فِي الْأَرْضِ" أي وفي أنفسكم آيات ظاهرة لمن أبصر إليها وركز النظر فيها أفلا تبصرون. والآيات التي في النفوس منها ما هي في تركب الأبدان من أعضائها وأعضاء أعضائها حتى ينتهي إلى البسائط وما لها من عجائب الأفعال والآثار المتحدة في عين تكثرها المدبرة جميعا لمدبر واحد، وما يعرضها من مختلف الأحوال كالجنينية والطفولية والرهاق والشباب والشيب. ومنها ما هي من حيث تعلق النفوس أعني الأرواح بها كالحواس من البصر والسمع والذوق والشم واللمس التي هي الطرق الأولية لاطلاع النفوس على الخارج لتميز بذلك الخير من الشر والنافع من الضار لتسعى إلى ما فيه كمالها وتهرب مما لا يلائمها ، وفي كل منها نظام وسيع جار فيه منفصل بذاته عن غيره كالبصر لا خبر عنده عما يعمله السمع بنظامه الجاري فيه وهكذا، والجميع مع هذا الانفصال والتقطع مؤتلفة تعمل تحت تدبير مدبر واحد هو النفس المدبرة والله من ورائهم محيط. ومن هذا القبيل سائر القوى المنبعثة عن النفوس في الأبدان كالقوة الغضبية والقوة الشهوية وما لها من اللواحق والفروع فإنها على ما للواحد منها بالنسبة إلى غيره من البينونة وانفصال النظام الجاري فيه عن غيره واقعة تحت تدبير مدبر واحد تتعاضد جميع شعبها وتأتلف لخدمته.
https://telegram.me/buratha