الصفحة الإسلامية

البصر والبصيرة في القرآن الكريم (ح 4)


الدكتور فاضل حسن شريف

جاء في معجم المعاني: البصر يقال للجارحة الناظرة، نحو قوله تعالى: "كَلَمْحِ الْبَصَرِ" (النحل 77)، و وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ" ﴿الأحزاب 10﴾، وللقوة التي فيها، ويقال لقوة القلب المدركة: بصيرة وبصر، نحو قوله تعالى: "فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ" ﴿ق 22﴾، وقال: "مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ" ﴿النجم 17﴾، وجمع البصر أبصار، وجمع البصيرة بصائر، قال تعالى: "فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ" ﴿الأحقاف 26 ﴾، ولا يكاد يقال للجارحة بصيرة، ويقال من الأول: أبصرت، ومن الثاني: أبصرته وبصرت به، وقلما يقال بصرت في الحاسة إذا لم تضامه رؤية القلب، وقال تعالى في الأبصار: "لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ" ﴿مريم 42﴾، وقال: "رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا" ﴿السجدة 12﴾، "وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ" ﴿يونس 43﴾، "وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ" ﴿الصافات 179﴾، "بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ" (طه 97) ومنه: "أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي" (يوسف 108) أي: على معرفة وتحقيق. وقوله: "بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ" ﴿القيامة 14﴾ أي: تبصره فتشهد له، وعليه من جوارحه بصيرة تبصره فتشهد له وعليه يوم القيامة، كما قال تعالى: "يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ" (النور 24). والضرير يقال له: بصير على سبيل العكس، والأولى أن ذلك يقال لما له من قوة بصيرة القلب لا لما قالوه، ولهذا لا يقال له: مبصر وباصر، وقوله عز وجل: "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ" (الانعام 103) حمله كثير من المفسرين على الجارحة، وقيل: ذلك إشارة إلى ذلك وإلى الأوهام والأفهام، كما قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: (التوحيد أن لا تتوهمه) وقال: (كل ما أدركته فهو غيره).

جاء في الميزان في تفسير القرآن للعلامة الطباطبائي حول السماع والبصر والعقل: أن ابراهيم عليه السلام اختار للنفي وصف أولي العقل حيث قال: "لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ" (الانعام 76) وكأنه للإشارة إلى أن غير أولي الشعور والعقل لا يستحق الربوبية من رأس كما يؤمي إليه في قوله المحكي: "يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئا" (مريم 42) ظرف لإبراهيم حيث إن المراد بذكره وذكر نبئه وقصته وهنا نداء من ابراهيم عليه السلام الى أب ابراهيم، وقوله الآخر "إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ ، قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ * قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ" (الشعراء 74) فسألهم أولا عن معبودهم كأنه لا يعلم من أمرها شيئا فأجابوه بما يشعر بأنها أجساد وهياكل غير عاقلة ولا شاعرة فسألهم ثانيا عن علمها وقدرتها وهو يعبر بلفظ أولي العقل للدلالة على أن المعبود يجب أن يكون على هذه الصفة صفة العقل. والأصنام جمادات مصورة فاقدة للشعور لا تسمع ولا تبصر فعبادتها لغو لا أثر لها ، وهذا هو الذي أشار إليه بقوله: "لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ". كما يشير إليه قوله عليه ‌السلام لقومه فيما حكى الله : "أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ" (الصافات 95) ومن جهة أنها فاقدة لأظهر صفات الربوبية وهو العلم والقدرة كما في قوله لأبيه: "إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً" (مريم 42).

وكانت بصيرة الناس في زمن الامام علي عليه السلام بعيدة عن القرآن فهم يحفظونه بدون بصيرة ووعي "بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ" (القيامة 14) و "قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِىٓ أَدْعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى" (يوسف 108) فقد عانى عليه السلام زمن حكمه مع هؤلاء. وما ابن ملجم الا واحد منهم، والا كيف يتجرأ ان يفعل فعلته هذه في بيت الله وفي محراب الصلاة وعند أداء الصلاة وافضل اوقات اليوم وهو الفجر "سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ" (القدر 5) وافضل الشهور وهو رمضان وقت الصيام وأفضل الليالي وهي ليلة القدر وفيها تنزل ملائكة السماء "تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ" (القدر 4). المفروض ان يتعظ الانسان من الموت الذي هو موعظة فعلية لتزداد بصيرته كما قال امير المؤمنين عليه السلام (كفى بالموت واعظا). والخوف احد اساليب الوعظ. ومنها الخوف من الموت.

ولا تتصور ان تغادر الدنيا بدون عملية حساب "وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا" (الكهف 49) فعلينا مراقبة اعمالنا ببصيرة ثاقبة ليكون مكانك قريب من الله تعالى في وقت لا ينفع فيه الندم "حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ" (المؤمنون 99) وعليك ان لا تكون من الذين قال الله عنهم "وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ" (الانعام 28). قال الامام الصادق عليه السلام (ان عمي العباس كان نافذ البصيرة) اي تعلم نفسه ان عمله يوصله الى ان يكون قريبا من الله سبحانه.

قال الشيخ جلال الدين الصغير عن معرفة علم الغيب منزلة روحية شارحا الأختلاف بين رؤية الأبصار والأفئدة: تفيد العديد من الآيات القرآنية أن التعرف على مقامات علم الغيب هو منزلة روحية يستطيع أن ينالها من لديه قدرة الوصول إلى هذه المنزلة، بمعنى أنها في المقام الأول اكتسابية كما قوله تعالى: "كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ" (التكاثر 5-7) فهذه الآية تتحدث عن رؤية الجحيم لو تم اكتساب علم اليقين، وما هو مفروغ عنه أنها ليست من آيات يوم القيامة، ففي يوم القيامة يطلع الجميع كفرة ومسلمين على الجحيم، فليس ثمة حاجة لعلم اليقين عندئذ، وليس أدل على ذلك من مجئ آية "ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ" (التكاثر 7) بعد ذلك مباشرة لتشير إلى وجود رؤيتين الأولى سببها علم اليقين، وأخرى لا يعلل سببها، وإنما يجعل مشاهدتها شاملة للجميع، لذلك لم يعبر عنها بالعلم، وإنما بالرؤية المحضة، وعليه فلئن لم تكن الآية الشريفة ناظرة إلى يوم القيامة فإنها حتما ناظرة إلى الدنيا، ومن ثم للتحدث عن إمكانية الاطلاع على أمر من أمور الغيب دون أن تقيده بقيد النبوة أو الإمامة أو ما إلى ذلك، بل للتحدث عن مفهوم كلي. هذا وللعلامة الطباطبائي أعلى الله مقامه كلام لطف في هذا المقام منه: (الظاهر أن المراد رؤيتها قبل يوم القيامة رؤية البصيرة، وهي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين على ما يشير إليه قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ" (الانعام 75)، وهذه الرؤية قبل يوم القيامة غير محققة لهؤلاء المتلهين، بل ممتنعة في حقهم لامتناع اليقين عليهم، ثم قال عن الآية الأخرى: المراد بعين اليقين نفسه، والمعنى لترونها محض اليقين، وهذه بمشاهدتها يوم القيامة، فالمارد بالرؤية الأولى رؤيتها قبل يوم القيامة، والثانية إذا دخلوا) ومثل ذلك الكثير من الآيات التي تتحدث عن رؤية الأبصار والأفئدة كما في قوله تعالى: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" (الحج 46) وكذلك قوله: "وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ" (الاعراف 198) وفي كلا الآيتين تأكيد على أن ثمة رؤية غير رؤية البصر العادية التي يشترك فيها كل الناس، هي رؤية القلوب ويؤكدها قوله تعالى: "مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى" (النجم 11)، ومثل ذلك قوله تعالى: "يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ" (النور 44). ولا يحتاج المرء إلى عسير فهم حتى يتبين له إن هذا التأكيد على رؤية البصيرة والفؤاد، إنما تكون بصورة غير مادية، لأنها لو كانت مادية، لاشترك بذلك الكافر والمشرك مع الموحد والمؤمن على حد سواء، ولكن ولأن القرآن يعتبر رؤية البصائر ميزة من مزايا التقوى الإلهية العالية كما عبر في مدحه لإبراهيم وذريته وإسحاق ويعقوب عليه السلام في قوله تعالى: "وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ" (ص 45) إذن فإن هذه الرؤية غير مادية، وأن تكون غير مادية فهي ناظرة إلى علم الغيب حتما.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
آخر الاضافات
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك