الدكتور فاضل حسن شريف
تكملة للحلقات السابقة قال الله جلت قدرته عن البصر في آيات قرآنية "أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ۖ لَـٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" ﴿مريم 38﴾ وأبصر: و حرف عطف، أبصر فعل، ما أشدَّ سمعَهم وبصرهم يوم القيامة، يوم يَقْدُمون على الله، حين لا ينفعهم ذلك، لكنِ الظالمون اليوم في هذه الدنيا في ذهابٍ بيِّنٍ عن الحق، و "لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ۗ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَـٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ۖ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ" ﴿الأنبياء 3﴾ تبصرون: تبصر فعل، ون ضمير، قلوبهم غافلة عن القرآن الكريم، مشغولة بأباطيل الدنيا وشهواتها، لا يعقلون ما فيه. بل إن الظالمين من قريش اجتمعوا على أمر خَفِيٍّ: وهو إشاعة ما يصدُّون به الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من أنه بشر مثلهم، لا يختلف عنهم في شيء، وأن ما جاء به من القرآن سحر، فكيف تجيئون إليه وتتبعونه، وأنتم تبصرون أنه بشر مثلكم؟، و "وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ" ﴿النمل 54﴾ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ: يرى بعضكم بعضا علانية، واذكر لوطًا إذ قال لقومه: أتأتون الفعلة المتناهية في القبح، وأنتم تعلمون قبحها؟ أإنكم لتأتون الرجال للشهوة عوضًا عن النساء؟ بل أنتم قوم تجهلون حقَّ الله عليكم، فخالفتم بذلك أمره، وعَصَيْتُم رسوله بفعلتكم القبيحة التي لم يسبقكم بها أحد من العالمين، و "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ" ﴿القصص 72﴾ أفلا تبصرون: ما أنتم عليه من الخطأ في الإشراك فترجعون عنه، قل لهم: أخبروني إن جعل الله عليكم النهار دائمًا إلى يوم القيامة، مَن إله غير الله يأتيكم بليل تستقرون وتهدؤون فيه؟ أفلا ترون بأبصاركم اختلاف الليل والنهار؟ و "وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ" ﴿السجدة 12﴾.
جاء في معاني القرآن الكريم: بَصرة: اسم، الجمع: بِصار، البَصْرةُ: الأَرض الغليظة، البَصْرةُ الحجارة الرخوة فيها بياض، البَصْرةُ الطين العَلِك الجيَّد فيه حَصًى، البَصْرةُ مدينة كبيرة في العراق، والبصرتان: البصرة والكوفة. باصِرة: اسم، الجمع: باصرات و بواصِرُ، الباصِرة: مؤنث الباصر، الباصِرة قوّة الإِبصار: عين، قوّة الإبصار، الباصرتان: العينان. جاء في المعاجم: بصَّرَ: بصَّرَ يبصِّر، تَبْصيرًا وتَبْصِرةً، فهو مُبصِّر، والمفعول مُبصَّر: بصَّر النَّاسَ الأمرَ بصَّر النَّاسَ بالأمر علّمهم إيّاه ووضّحه لهم، عرّفهم به: بصّرهم بالخَطَر بالحقيقة، يبصّر العاقلُ الجهلاءَ بعواقب أعمالهم، "تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ" (ق 8)، و "يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ" (المعارج 11).
جاء في الميزان في تفسير القرآن للعلامة الطباطبائي عن الآلهة التي لا تبصر: نرى أن الإسلام لم ينه عن اتخاذ آلهة دون الله وعبادتهم إلا بعد ما بين للناس أنهم مخلوقون مربوبون أمثالهم، وأن العزة والقوة لله جميعا قال تعالى "إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ" (الاعراف 194) وقال "وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ" (الاعراف 198) وقال تعالى "قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" (ال عمران 64) ختم الآية بحديث التسليم لله تعالى بعد ما دعاهم إلى ترك عبادة غير الله تعالى من الآلهة ورفض الخضوع لسائر المخلوقين المماثلين لهم وقال تعالى :"أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً" (البقرة 165)، وقال "فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً" (النساء 139) وقال "ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ" (السجدة 4) إلى غير ذلك من الآيات.
والبصيرة لها علاقة بالعقل كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قسم العقل على ثلاثة أجزاء، فمن كانت فيه كمل عقله، ومن لم تكن فيه، فلا عقل له: حسن المعرفة بالله عزّ وجل، وحسن الطاعة له، وحسن البصيرة على أمره) فالمعرفة والطاقة لا يكفيان بدون وجود البصيرة. فترى من المؤمنين يعرفون الله ويطعيونه ولكن بدون بصيرة تمنعهم عن الانحراف. فالبصيرة نور لهداية الناس بالسير على الطريق الصحيح كما قال الإمام الصادق عليه السلام: (العامل على غير بصيرة كالسائر على غير طريق لا يزيده سرعة السير إلاّ بعدًا). علاقة البصيرة مع أخذ العبرة علاقة طردية مثل هلاك الاقوام فهي عبرة للبشر مثلا "أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ" (طه 128) و "فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ " (القصص 58) فالاقوام عوقبوا بذنوبهم. وعلى الامم اخذ العبرة وعدم تكرار افعال الاقوام التي اهلكت كما هو حاصل في الوقت الحالي يفسدون ويسرقون وهم يسكنوا بيوت الطغاة الهالكة.
الرين يعني الغطاء الذي يغطي القلب فلا يرى صاحبه النور الذي يهدي الى الحق. هنالك نوعان من الموعظة القولية والفعلية. والقرآن كتاب موعظة ونصيحة "ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" (البقرة 232). والذي على قلبه رين يصبح اعمى البصيرة "وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى" (فصلت 44). ويحصل الرين عند الاصرار على الذنب كالفاحشة وعدم الاستغفار "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (ال عمران 135). فالذنب على المؤمن كالصخرة على قلبه فيسرع الى الاستغفار ليزيل تلك الصخرة حتى لا يفقد بصيرته. عكس غير المؤمن فانه لا يشعر بالذنب فلا يستغفر وتتراكم الذنوب على قلبه لتصبح غطاء ويفقد بذلك بصيرته فيفقد انسانيته.
جاء في مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ الطبرسي: قوله تعالى "بَلِ ٱلْإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ بَصِيرَةٌ" (القيامة 14) أي: إن جوارحه تشهد عليه بما عمل فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه عليه، عن ابن عباس وعكرمة ومقاتل. وقال القتيبي: أقام جوارحه مقام نفسه، ولذلك أنث لأن المراد بالإنسان ههنا الجوارح. وقال الأخفش. هي كقولك فلان حجة وعبرة ودليله قوله تعالى: "كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا" (الاسراء 14) وقيل: معناه أن الانسان بصير بنفسه وعمله. وروى العياشي بإسناده عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا، ويسر سيئا؟ أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنه ليس كذلك، والله سبحانه يقول "بَلِ ٱلْإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ بَصِيرَةٌ" (القيامة 14) إن السريرة إذا صلحت قويت العلانية، عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه تلا هذه الآية، ثم قال: ما يصنع الانسان أن يعتذر إلى الناس خلاف ما يعلم الله، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: من أسر سريرة رداه الله رداءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وعن زرارة قال: سألت أبا عبد الله ما حد المرض الذي يفطر صاحبه؟ قال: بل الانسان على نفسه بصيرة، هو أعلم بما يطيق. وفي رواية أخرى هو أعلم بنفسه ذاك إليه.
https://telegram.me/buratha