الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب المحكم في اصول الفقه للسيد محمد سعيد الحكيم قدس سره: ما ذكره الشيخ الطبرسي ويظهر من بعض الأعاظم قدس سره وغيره من إن الآية "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (البقرة 124) لما لم تكن واردة بنحو القضية الخارجية لتقصر عمن انقضى عنه الظلم حين صدروها، بل بنحو القضية الحقيقة كانت شاملة للظالم حين وجوده وتلبسه بالظلم، ومقتضى إطلاقها عدم نيله العهد أبدا، لان قوله تعالى: "لَا يَنَالُ" مضارع منفي غير محدود بوقت، وهو يقتضى التأبيد. وفيه : أن مقتضى الاطلاق عدم ارتفاع الحكم عن موضوعه ، لا عدم ارتفاعه بارتفاعه ، فإذا اخذ في موضوع امتناع الإمامة عنوان الظالم لزم دورانه مدار صدق العنوان المذكور، لا ثبوته للذات بعد ارتفاعه ، كما هو الحال لو قيل : لا تصل خلف الفاسق. نعم، لو كان العنوان مسوقا لمجرد الحكاية عن الذات مع كونها تمام الموضوع اتجه ما ذكره قدس سره. لكنه مخالف لظاهر أخذ العنوان، ولا سيما في القضايا الحقيقية، وفي مثل المقام مما كان دخل العنوان في الحكم ارتكازيا. بل لا يظن منه ولا من غيره البناء على ذلك. ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من ظهور صدر الآية في سؤال إبراهيم عليه السلام الإمامة لذريته ، ويمتنع منه سؤالها لمن هو متلبس بالظلم حينها، بل المسؤول له عداهم ممن لم يتلبس بالظلم أصلا أو انقضى تلبسه به، فيكون ذيلها إخراجا للقسم الثاني، دون من تلبس بالظلم حينها، لخروجه عن مورد السؤال. وفيه مع عدم ظهور صدر الآية ولا الروايات في سؤال إبراهيم وطلبه للإمامة، بل استفهامه عنها. أن إبراهيم عليه السلام لم يطلب استيعاب ذريته بالإمامة، ليمنع عمومه للمتلبس بالظلم، بل جعلها فيهم في الجملة من دون نظر لشروط المستحق لها ، وبيان المستحق ابتداء منه تعالى، فلا مانع من حمله على المتلبس فعلا بالظلم . أن وضوح منافرة منصب الإمامة للتلبس بالظلم مانع من حمل الآية الشريفة عليه، لاستهجان بيانه حينئذ ، بل لا بد أن يحمل على ما يحتاج للبيان مما فيه نحو من الخفاء ، وهو مانعية الظلم آنا ما من الإمامة ولو بعد ارتفاعه ، فيكفي صدق العنوان سابقا بلحاظ حال التلبس. وفيه: أن وضوح ذلك بحسب المرتكزات العقلية والفطرة الأولية لا يمنع من بيانه بعد خروج الناس عن ذلك عملا بسبب جور الظالمين ، بل اعتقاد كثير من أهل الأديان بخلافه ، لشبهات روجها الطواغيت ، فقد اشتهر عن المسيحيين إيمانهم المطلق بالكنيسة، وكذا غيرهم من أهل الأديان حتى بعض فرق المسلمين. ولولا ما من الله تعالى به من وضوح البيان ببقاء القرآن المجيد، وجهود أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم المخلصين، في التأكيد على ذلك ، وفي كشف حال الظالمين وسلب الثقة بهم ، لاتخذ عامة المسلمين طواغيتهم أئمة يتبعونهم في الاحكام ، ويأخذون منهم الحلال والحرام ، كما تبعوا بعض الأوائل في كثير من فروع الدين وأصوله، مع وضوح ظلمهم حين ادعاء المنصب، وإن حاول بعض الاتباع بضلالهم التلبس والدفاع عن أئمتهم، وتنزيه سيرتهم عن الظلم ، وسننهم في الدين عن الابتداع ، بعد وضوح مانعية التلبس بالظلم عن الإمامة بسبب الجهود المذكورة.
جاء في كتاب اصول العقيدة للسيد محمد سعيد الحكيم قدس سره: تأكيد الكتاب والسنة على الإذعان بالحقائق الدينية: قال الله عزّ وجلّ: "قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إلَينَا وَمَا أُنزِلَ إلَى إبرَاهِيمَ وَإسمَاعِيلَ وَإسحَاقَ وَيَعقُوبَ وَالأسبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِم لاَ نُفَرِّقُ بَينَ أحَدٍ مِنهُم وَنَحنُ لَهُ مُسلِمُونَ* فَإن آمَنُوا بِمِثلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَد اهتَدَوا وَإن تَوَلَّوا فَإنَّمَا هُم فِي شِقَاقٍ فَسَيَكفِيكَهُم اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ" (البقرة 136-137). وقال جلّ شأنه: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيهِ مِن رَبِّهِ وَالمُؤمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَينَ أحَدٍ مِن رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعنَا وَأطَعنَا غُفرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيكَ المَصِيرُ" (البقرة 285). وقد روي بطرق متعددة عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (الإسلام هو التسليم). وفي صحيح الباهلي: قال أبو عبد الله عليه السلام: لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجوا البيت، وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا صنع خلاف الذي صنع، أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين.
عن كتاب مصباح المنهاج: الإجتهاد و التقليد للسيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم: أن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي إلغاء خصوصية الكتمان فإن المنسبق عرفا أن تحريم الكتمان في الاية ليس لملازمته لمعاداة الحق والاهتمام بطمسه والرغبة في ضلال الناس، بل لملازمته لضياع الحق وانطماسه المنافي للغرض من بعث الرسل وبيان الاحكام في الكتب. كما يناسبه قوله تعالى: "من بعد ما بيناه للناس في الكتاب" (البقرة 159)، وقوله سبحانه: "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فاولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم" (البقرة 160)، لاشعار الاول بعلة الحكم، وظهور الثاني في توقف التوبة على التبيين المشعر أو الظاهر في كون المحرم مجرد عدم البيان، لا خصوصية الكتمان. ولعل ذكر الكتمان لمناسبته لمورد الاية، بناء على نزولها في علماء أهل الكتاب تنبيها لشدة جرمهم، لا بتناء عدم البيان منهم على الكتمان والاهتمام بإخفاء الحق. نعم، لا يبعد انصراف الاية وغيرها من أدلة المقام عما لو كان الجاهل في مقام الاعراض عن الواقع وعدم الاهتمام بمعرفة الحكم، كما تقدم ويأتي، ولا يكفي مجرد عدم كونه في مقام الاستعلام لغفلته ولو تقصيرا. ومما ذكرنا يظهر أن هذه الاية أعم من آية النفر مطلقا لا من وجه. كما أن الظاهر أنها أعم من بقية أدلة المقام التي أشرنا إليها، إلا أن ذلك لا يقتضي تخصيصها بها، لعدم التنافي بينها بعد اتفاقها معها في الاثبات. إذا عرفت هذا ظهر وجه الاستدلال بهذه الادلة على وجوب الاعلام بالخطأ في المقام، لاطلاق آية الكتمان. بل حيث يكون الجاهل في مقام العمل والاهتمام بالواقع فهو يدخل في المتيقن من الاية. كما أنه لو كان المخبر ثقة عند الجاهل كان قوله حجة في حقه، فيدخل في آية النفر. نعم، الادلة المذكورة كما تقتضي وجوب الاعلام من المخبر الاول، كذلك تقتضي وجوبه من غيره ممن يعلم الحكم، ومن ثم استدل بها سيدنا المصنف قدس سره في المقام. لكن ذكر بعض مشايخنا أنه لا مجال للاستدلال بالادلة المذكورة في المقام، لان المراد من وجوب التبليغ فيها بيان الاحكام بنحو يتمكن العامي من الوصول إليه حتى لا يندرس الدين، وذلك بمثل طبع الرسالة العملية والتهيؤ للافتاء، لا بايصال الحكم لكل فرد فرد من المكلفين بتحري أماكنهم وملاحقتهم بأشخاصهم، ليجب تنبيه الجاهل بخطأ البيان الواصل إليه سابقا في المقام، لعدم دلالة الادلة المذكورة على ذلك ولم يلتزم به الائمة عليهم السلام فضلا عن غيرهم، وإنما وجب على لنبي صلى الله عليه وآله بالمقدار الممكن دون بقية المكلفين.
https://telegram.me/buratha