الدكتور فاضل حسن شريف
قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (المجادلة 12) جاء في كتاب الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته في ضوء المنهج التحليلي للمؤلف محمد حسين علي الصغير: كان لهذه الآية وقع كبير ، فامتنع الأكثرون عن النجوى ، وتصدق من تصدق فسأل ووعى وعلم ، وانتظم المناخ العقلي بين يدي الرسول الأعظم ، وتحددت الأسئلة ، ليتفرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسؤولية القيادية، وكان عليٌ وحده هو المتصدّق وهو المناجي ليس غير ، وقام على ذلك إجماع المسلمين حتى قال عبد الله بن عمر (كان لعلي بن أبي طالب عليه السلام ثلاث لو كانت لي واحدة منهن لكانت أحبّ إلي من حمر النعم : تزويجه فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى) وقال عليٌّ عليه السلام يشرح هذه الحادثة (إذا كان في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي وتلا آية النجوى كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكلما أردت أن أناجي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدمت درهماً). ولما وعت الجماعة الإسلامية مغزى الآية ، وبلغ الله فيها أمره ، نسخ حكمها ورفع ، وخفف الله عن المسلمين بعلي وحده ، بعد شدة مؤدية ، وفريضة راوعة ، وتأنيب في آية النسخ "أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (المجادلة 13). هذه نماذج مما جبل عليه عليٌ نفسه، وبما أخذها فيه ، جاءت على سجيتها، دون تكلف، وانطلقت ذاتية دون رياء، وما لعلي وللتكلف والرياء، ولو كان له بيتان: بيت من تبر وبيت من تبن لا نفق تبره قبل تبنه كما يقول معاوية.
وعن واقعة الخندق يقول الدكتور الصغير في كتابه: قال تعالى"إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا" (الاحزاب 10-12) هذا هو المشهد كما عبّر عنه القرآن، ولك أن تمعن في دلالته لتقف على الحقيقة المذهلة في استقراء المناخ النفسي للمسلمين. قال الطبري وابن هشام وسواهما: وخرج علي بن أبي طالب عليه السلام في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، فأسقط في يد عمرو بن عبدود وزمرته ما أقدم عليه عليّ، فطأطأت له الكبرياء المهلهلة، وكان نزوله عليهم كالصاعقة في عنفها، وكالهدة في وقعها، إحتملتها نفوسهم رياء، وضاقت بها أحلامهم ذرعا، فإستشعرت المهانة والذلة بعد العزّة، وحصدت الخيبة والفشل بعد الزهو والغرور ، ولم يمنع هذا عمرا من تيهه وغطرسته، ولم يهذّب من غلوائه واعجابه، فاندفع يطلب البراز، ولا مجيب، يشق صدى صوته البيداء، والمسلمون في ذهول، وكأن على رؤوسهم الطير، ولكن القائد الواثق ، والفارس المجرب ، يستجيب لهذا النداء من الأعماق فيقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنا له يا رسول الله أنا له يا نبي الله. فأذن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمبارزة، وأعطاه سيفه ذا الفقار، والبسه درعه وعمامته، وقال: اللهم أعنه عليه. فأهتز عليّ لهذا الإذن، ومضى على بصيرة من أمره، وقوة من عزمه، يبدد خوف المسلمين ويكشف رهبتهم، وانحدر الى عمرو كما ينحدر السيل من الجبل، وقد حرص عليّ بهذا الموقف على الموت. جلس علي على صدره، وثارت لهما غبرة، كبّر علي، فعلم المسلمون بمصرع عمرو، وكبّر المسلمون، ولما قتل عمرو هرب الذين معه بخيولهم. وهنا اشتهر عن النبي أنه قال (برز الإيمان كله الى الشرك كله). وما أراح عليّ نفسه ، بل رجع الى مقامه الأول، ووقف بحيث الثغرة من الخندق، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر ، وسارت الركبان بالنبأ، واهتزت الصحراء بالمعركة، وصدع الوحي "وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا" (الاحزاب 25).
وعن غزوة بني قريضة يقول الدكتور محمد حسين الصغير: وقد أنزل الله في غزوة بني قريظة من الذكر الحكيم قوله تعالى "وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا" (الاحزاب 26-27). ولم يكن عليّ عليه السلام ليستريح أو يريح ، لم يكن ليستريح بذاته، ولم يكن ليريح غيره، فقد شمّر ساعده للذّب عن الإسلام، وقريش في رعب منه بعد غزوة الخندق، وأبناء اليهود في إضطراب بعد غزوة بني قريظة، فغلت عليه الصدور بمراجل الحقد ، وتألّبت عليه المشاعر بمظاهر الكراهية ، وهو يعلم ذلك العلم كلّه، وكلنّه لم يكن مندفعا دون أناة، ولا مشرعا دون تفكير، كان يعمل فكره، ويهيأ أمره، بخطى سديدة ثابتة.
وقال الاستاذ الصغير عن فتح مكة وموقع الإمام: ما برح المسلمون بعد صلح الحديبية يتطلعون الى ذلك اليوم العظيم « يوم الفتح » الذي وعدهم إياه الله في كتابه الكريم فقال تعالى "لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا" (الفتح 27). أخبر الرسول محمد صلى الله عليه وآله جماعة من صحبه وفي طليعتهم علي بأنه يريد مكة ، ولكن الأكثرية لا تعلم جهته، وكانت فلتة مزرية ، وخيانة مريرة من حاطب بن أبي بلتعة، حينما سرّب الخبر الى قريش بيد سوداء جعل لها جعلا ، وأخبر الوحي النبي بالأمر، فأرسل عليا والزبير، فسبقا الى المرأة، وأدركها الزبير فاستظقها فأنكرت، وقال لأمير المؤمنين: ما أرى معها كتابا، نذهب الى رسول الله ونخبره، فقال علي عليه السلام: يخبرني رسول الله أن معها كتابا، ويأمرني بأخذه منها، وتقول أنت أنه لا كتاب معها، ثم اخترط سيفه، وأقبل عليها، وقال: والله إن لم تخرجي الكتاب لأكشفنك ثم لأضربن عنقك. فلما رأت الجد من عليّ عليه السلام أخرجت الكتاب من عقيصتها ، فأخذه عليّ وانطلق به الى رسول الله، وأنذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابن أبي بلتعة بعد أن إعترف بذنبه، وهو يرعد كالسعفة في يوم الريح العاصف كما تقول الرواية ، فأتّبه وحذرّه ونزل قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ" (الممتحنة 1).
https://telegram.me/buratha