الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في محاضرات في الإلهيات للشيخ جعفر السبحاني: قوله سبحانه: "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون" (الشورى 38) ببيان أن كلمة "أمر" أضيفت إلى ضمير "هم" وهو يفيد العموم لكل أمر ومنه الخلافة، فيعود معنى الآية: إن شأن المؤمنين في كل مورد شورى بينهم. يلاحظ عليه: أن الآية حثت على الشورى فيما يمت إلى شؤون المؤمنين بصلة، لا فيما هو خارج عن حوزة أمورهم، وكون تعيين الإمام داخلا في أمورهم فهو أول الكلام، إذ لا ندري على الفرض هل هو من شؤونهم أو من شؤون الله سبحانه؟ ولا ندري، هل هي إمرة وولاية إلهية تتم بنصبه سبحانه وتعيينه، أو إمرة وولاية شعبية يجوز للناس التدخل فيها؟ فإن قلت: لو لم تكن الشورى أساس الحكم، فلماذا استدل بها الإمام علي عليه السلام على المخالف، وقال مخاطبا لمعاوية: (إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه) قلت: الاستدلال بالشورى كان من باب الجدل حيث بدأ رسالته بقوله: (أما بعد، فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر). ثم ختمها بقوله: (فادخل فيما دخل فيه المسلمون). فالابتداء بالكلام بخلافة الشيخين يعرب عن أنه في مقام إلزام معاوية الذي يعتبر البيعة وجها شرعيا للخلافة، ولولا ذلك لما كان وجه لذكر خلافة الشيخين، بل لاستدل بنفس الشورى. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء) فلو كان أمر الخلافة بيد الأمة لكان عليه صلى الله عليه وآله وسلم يقول الأمر إلى الأمة، أو إلى أهل الحل والعقد، أو ما يشابه ذلك، فتفويض أمر الخلافة إلى الله سبحانه ظاهر في كونها كالنبوة يضعها سبحانه حيث يشاء، قال تعالى: "الله أعلم حيث يجعل رسالته" (الانعام 124).
تكملة للحلقتين السابقتين جاء في تفسير الكاشف لمحمد جواد مغنية عن من هم أولوا الأمر: قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ" (النساء 59). لقد كثر الكلام والنقاش حول المراد من أولي الأمر، وما يعتبر فيهم من صفات، كما تشبث بها الحكام الأدعياء على وجوب إطاعتهم، أو السكوت عنهم على الأقل وأيضا استدل بها جماعة من الفقهاء على أن مصادر الشريعة وأصولها تنحصر بأربعة، وهي: كتاب اللَّه لقوله تعالى: "أَطِيعُوا اللَّه" (النساء 59). والسنة النبوية لقوله: "وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ". والإجماع لقوله: "وأولي الأمر منكم" (النساء 59). والقياس لقوله: {فان تنازعتم في شيء فردوه إلى اللَّه والرسول"، حيث زعموا ان المعنى قيسوا ما لا نص فيه على نظيره الذي فيه نص من الكتاب والسنة، ويأتي البيان عن ذلك، ولا خلاف في ان الكتاب والسنة هما الأصلان الأساسيان للتشريع، أما الإجماع والقياس فقد اختلفوا في حجيتهما، وفي دلالة الآية عليهما . وفيما يلي نعرض الجهات التي تضمنتها الآية، والآراء التي قبلت حولها. 1 - لا يختلف اثنان من المسلمين في أن إطاعة اللَّه والرسول انما تكون بالعمل بكتاب اللَّه وسنة نبيه ، وانهما وسيلتان للتعبير عن شيء واحد، "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ" (النساء 80). "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" (الحشر 7). "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" (النجم 3-4). ومن هنا اتفق المسلمون قولا واحدا على رفض كل ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه واله إذا تنافى مع مبدأ من مبادئ القرآن وحكم من أحكامه. وتسأل: لما ذا كرر لفظ الإطاعة عند ذكر الرسول، ولم يكررها عند ذكر أولي الأمر؟. الجواب: للتنبيه على ان إطاعة الرسول أصل بذاته، تماما كإطاعة اللَّه، ومن هنا كان قول كل منهما مصدرا من مصادر الشريعة، وليس كذلك إطاعة أولي الأمر، انها فرع وتبع لإطاعة اللَّه والرسول، ان اولي الأمر رواة عن الرسول.
تكملة للحلقة السابقة جاء في موقع عرفان عن رأي الجمهور في أهل الحل والعقد: 5 ـ رأي صاحب المواقف الإيجي: يقول القاضي عبد الرحمن الإيجي الشافعي المتوفّى (756 هـ) في المواقف: وتثبت الإمامة ببيعة أهل الحل والعقد، خلافاً للشيعة. ثم قال: إذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة فاعلم أنّ ذلك لا يفتقر إلى الإجماع، إذ لم يقم دليل من العقل أو السمع، بل الواحد والاثنان من أهل الحل والعقد كاف. 6 ـ رأي الماوردي أيضاً: وقال أبو الحسن علي بن محمد الماوردي المتوفّى (450هـ) في الأحكام السلطانية: اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى. فقالت طائفة لا تنعقد إلاّ بجمهور أهل العقد والحل من كلّ بلد; ليكون الرضاء به عاماً والتسليم لإمامته إجماعاً... وقالت طائفة أخرى أقل من تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة، استدلالاً بأمرين: أحدهما: إنّ بيعة أبي بكر رضي الله عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، ثم تابعهم الناس فيها. والثاني: إنّ عمر رضي الله عنه جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين. وقال آخرون من علماء الكوفة تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين. وقالت طائفة أخرى تنعقد بواحد; لأنّ العباس قال لعلي رضوان الله عليهما امدد يدك أبايعك فيقولالناس عم رسولالله صلى الله عليه وآله وسلم بايع ابنعمه فلا يختلف عليك اثنان. 7 ـ رأي الجبائي والمحلّي وسليمان بن جرير: وذهب الجبائي من المعتزلة إلى: أنّ الإمامة تنعقد بخمسة يجتمعون على عقدها. وذكر جلال الدين المحلّي في شرحه على منهاج الطالبين للنووي: إنّ الإمامة تنعقد بالبيعة من قبل أربعة. ونقل: أنها تنعقد بمبايعة ثلاثة; لأنها جماعة لا يجوز مخالفتهم. وقيل: إنّ الإمامة تنعقد ببيعة رجلين من أهل الورع والاجتهاد. وهو رأي منسوب إلى سليمان بن جرير الزيدي، وطائفة من المعتزلة. ويذهب إلى انعقاد الإمامة ببيعة عدد محدود وقليل، طائفة من أعلام السنّة وفقهائهم، لا نريد أن نطيل الوقوف بذكر كلماتهم في هذه المقالة. ويذهب عدد من الفقهاء إلىانعقاد الإمامة ببيعة شخص واحد فقط كما ذكرنا.
جاء في الموسوعة الحوزوية عن أهل الحل والعقد: فالحاصل مجلس الخبراء للقيادة يمكن تخريجهم بأحد نحوين: 1- أنّه انتخاب من قبل الشعب لانتخاب القيادة. 2- أنّه اختيار من قبل الشعب للخبراء لكي يشخّصوا من هو الأكفأ من بين الواجدين لشرائط القيادة، وبين التفسيرين فرق. نعم، من الناحية النظرية إمّا أن يلتزم بأنّ ولاية الحاكم لا تحتاج في مقام شرعيتها و فعليتها إلى رأي أحد، فيكون من اجتمعت فيه الصفات هو الإمام على المسلمين بتصدّيه، فلا يحقّ لأحد مزاحمته بعد تصدّيه و حيازته للشرائط الشرعية. أو يلتزم بأنّ ولايته متفرّعة- إلى جانب جامعيته للشرائط على قبول الشعب، وهنا إمّا أن يجري انتخابه من قبل الشعب بالانتخاب المباشر، أو عبر الواسطة التي هي مجلس خبراء القيادة، أو أيّ مجلس آخر مفترض. وفي هذه الحال يقال: إنّ أهل الحلّ والعقد إذا كانوا يمثّلون في المجتمع آراء الناس كشيوخ العشائر بالنسبة لأفراد العشيرة كانوا جميعاً أو المقدار المحرز تمثيله لرأي الشعب هم الجهة المخوّلة لتعيين الحاكم، وفي حال اختيار الشعب لبعضهم فقط ليتولّى هذه المهمّة، كما هي الحال في مجلس خبراء القيادة، يكون بعضهم هو المتولّي في هذا الأمر لا جميعهم. وكما يشارك أهل الحلّ والعقد في الجملة في تعيين الحاكم كذلك يشاركون في عزله الخارجي بعد انعزاله الواقعي بفقدان بعض الشروط فيه، فإنّهم حيث يملكون النفوذ الاجتماعي والسياسي يقع على عاتق كلّ منهم مسؤولية عزل الحاكم غير الشرعي لتهيئة الظروف للحاكم الشرعي الجديد. وإذا تمّ الالتزام بأنّ أهل الحلّ والعقد يشاركون في اختيار الحاكم من موقع تعبيرهم عن رأي الشعب، فلا حاجة فيهم إلى شرط العدالة ولا العلم ولا غيره ممّا ذكر في فقه الجمهور، لأنّ العبرة برأي الشعب حينئذٍ، مع الأخذ بعين الاعتبار اختيارهم أحد من هو من جامعي شرائط الحاكمية حسب الفرض. ومنها: أنّ أهل الحلّ والعقد يتحمّلون المسؤولية الكبرى في نشر الإسلام و إقامة الشعائر و نصرة الحقّ و الدفاع عن المظلوم وقضاء حوائج الناس وغير ذلك من أعمال البرّ، لما يتمتّعون به من القدرة و الجاه والنفوذ بين الناس، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: (يسأل المرء عن جاهه كما يسأل عن ماله، يقول: جعلت لك جاهاً، فهل نصرت به مظلوماً، أو قمعت به ظالماً، أو أغثت به مكروباً ؟). وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: (زكاة الجاه بذله). وهذا معناه لزوم استخدامهم لسلطاتهم ونفوذهم في كلّ مواقع الحقّ ورفض الباطل . ومن ذلك مساهمتهم في وضع و إجراء القوانين التنفيذية في المجتمع وسعيهم لتطبيقها أو تشريعها تحت إطار القواعد الشرعية العامة. ذكرنا أنّ بعض فقهاء الجمهور شرطوا في أهل الحلّ والعقد شروطاً، منها: العلم والعدالة و العدد الخاص، وبيّنا أنّ هذه الشروط غير مطّردة. لكن إذا التزم فقهيّاً بأنّ الذين يعينون الحاكم أي أهل الاختيار ليسوا مطلق الشعب أو من يمثّله، وإنّما خصوص من يتمكّنون من تشخيص الأفضل من الشرائط المأخوذة في الحاكم، فهنا يجب أن يكونوا من أهل العلم والخبرة والعدالة في الشأن المتّصل باختيار الحاكم، سواء على المستوى الشرعي أم على المستوى العملي. ولم يأخذ الفقه الإمامي عدداً خاصاً في أهل الاختيار من أهل الحلّ والعقد، وإنّما هي قضية متغيّرة تختلف باختلاف الزمان و المكان والظرف والحال. نعم، في أهل الحلّ والعقد في غير شؤون اختيار الحاكم تتناسب الشروط مع طبيعة المورد، ففي الإجماع يجب أن يكونوا فقهاء عدول بحيث يبلغون في العدد حدّاً يكشف عن موقف المعصوم، وفي الشؤون العملية التفصيلية مثل المجالس البلدية والنيابية وأمثالها لا تشترط الفقاهة بل تؤخذ الشروط الشرعية و العقلائية التي تتطلّبها طبيعة المهمّة، وهي امور تختلف أيضاً زماناً ومكاناً وظرفاً وحالًا. دور أهل الحل والعقد في الإجماع: ذكر الشهيد الثاني أنّ الإجماع الذي تعدّ مخالفته إنكاراً لما علم من الدين بالضرورة هو الإجماع الذي يكون من أهل الحلّ والعقد من المسلمين. و الظاهر أنّ مراده أنّ العبرة بالإجماع ليس أن يتّفق عليه آحاد المسلمين جميعاً، وإنّما يتحقّق بأهل الحلّ والعقد، وهنا لا يُقصد من هذا المصطلح مطلق أهل النفوذ، بل خصوص الفقهاء الذين هم أهل الحلّ والعقد في القضايا الدينية والشرعية. وهذا ما عليه اصول الفقه الإمامي من أنّ الإجماع يلاحظ من خلال كلمات الفقهاء لا غيرهم. نعم، السيرة المتشرعية قد تلاحظ عبر مواقف عامة المتشرّعة في عصر النص ولو لم يكونوا فقهاء.
https://telegram.me/buratha