الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في کتاب اقتصادنا للشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره عن علاقة الملكية والخلافة: فالمال مال الله وهو المالك الحقيقي، والناس خلفاؤه في الأرض وأمناؤه عليها وعلى ما فيها من أموال وثروات. قال الله تعالى "هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاّ مَقْتاً" (فاطر 39). والله تعالى هو الذي منح الإنسان هذه الخلافة ، ولو شاء لانتزعها منه ( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ" (الانعام 133). وطبيعة الخلافة تفرض على الإنسان أن يتلقى تعليماته بشأن الثروة المستخلف عليها ممّن منحه تلك الخلافة. قال الله تعالى "آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ" (الحديد 7)، كما أنّ من نتائج هذه الخلافة أن يكون الإنسان مسئولا بين يدي من استخلفه خاضعاً لرقابته في كلّ تصرفاته وأعماله، قال الله تعالى "ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" (يونس 14). والخلافة في الأصل هي للجماعة كلّها ؛ لأنّ هذه الخلافة عبّرت عن نفسها عملياً في إعداد الله تعالى لثروات الكون ووضعها في خدمة الإنسان . والإنسان هنا هو العام الذي يشمل الأفراد جميعاً، ولذا قال تعالى "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً" (البقرة 29). وأشكال الملكية بما فيها الملكية والحقوق الخاصة إنّما هي أساليب تتيح للجماعة ـ بإتباعها ـ أداء رسالتها في أعمار الكون واستثماره. قال الله تعالى "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ" (الانعام 165)، فالملكية والحقوق الخاصة التي منحت لبعض دون بعض فاختلفت بذلك درجاتهم في الخلافة ، هي ضرب من الامتحان لمواهب الجماعة ومدى قدرتها على حمل الأعباء ، وقوّة دافعة لها على إنجاز مهامّ الخلافة ، والسباق في هذا المضمار. وهكذا تصبح الملكية الخاصة في هذا الضوء أسلوباً من أساليب قيام الجماعة بمهمّتها في الخلافة ، وتتّخذ طابع الوظيفة الاجتماعية كمظهر من مظاهر الخلافة العامة، لا طابع الحقّ المطلق والسيطرة الأصيلة، وقد جاء عن الإمام الصادق أنّه قال (إنّما أعطاكم الله هذه الفضول من الأموال لتوجّهوها حيث وجّهها الله ، ولم يعطِِكموها لتكنزوها).
وعن علاقة الخلافة بالمال يقول السيد الصدر قدس سره: ولما كانت الخلافة في الأصل للجماعة، وكانت الملكية الخاصة أسلوباً لإنجاز الجماعة أهداف هذه الخلافة ورسالتها، فلا تنقطع صلة الجماعة ولا تزول مسؤوليتها عن المال لمجرّد تملّك الفرد له، بل يجب على الجماعة أن تحمي المال من سفه المالك إذا لم يكن رشيداً، لأنّ السفيه لا يستطيع أن يقوم بدور صالح في الخلافة. ولذا قال الله تعالى "وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً" (النساء 5)، ووجّه الخطاب إلى الجماعة، لأنّ الخلافة في الأصل لها، ونهاها عن تسليم أموال السفهاء إليهم ، وأمرها بحماية هذه الأموال والإنفاق منها على أصحابها، وبالرغم من أنّه يتحدّث إلى الجماعة عن أموال السفهاء، فقد أضاف الأموال إلى الجماعة نفسها فقال "وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ" (النساء 5). وفي هذا إشعار بأنّ الخلافة في الأصل للجماعة، وأنّ الأموال أموالها بالخلافة، وإن كانت أموالاً للأفراد بالملكية الخاصة. وقد عقبّت الآية على هذا الإشعار بالإشارة إلى أهداف الخلافة ورسالتها، فوصفت الأموال قائلة "أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً" (النساء 5)، فالأموال قد جعله الله للجماعة ، يعني: أنّه استخلف الجماعة عليها، لا ليبذروها أو يجمّدوها، وإنّما ليقوموا بحقّها ويستثمروها ويحافظوا عليه، فإذا لم يتحقّق ذلك عن طريق الفرد، فلتقم الجماعة بمسؤوليتها. وعلى هذا الأساس يستشعر الفرد المسؤولية في تصرّفاته المالية أمام الله تعالى، لأنّه هو المالك الحقيقي لجميع الأموال، كما يحسّ بالمسؤولية أمام الجماعة أيضاً، لأنّ الخلافة لها بالأصل، والملكية للمال إنّما هي مظهر من مظاهر تلك الخلافة وأساليبها، ولهذا كان من حقّ الجماعة أن تحجر عليه إذا لم يكن أهلاً للتصرّف في ماله، لصغرٍ أو سفهٍ، وأن تمنعه عن التصرّف في ماله بشكل يؤدّي إلى ضرر بليغ بسواه، وكذلك أن تضرب على يده، إذا جعل من ماله مادّة للفساد والإفساد، كما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله على يد سمرة ابن جندب وأمر بقطع نخلته الخاصّة ورميها، حين اتّخذها مادّة فساد، وقال له: (إنّك رجلٌ مُضار).
وعن علاقة الملكية الخاصة بالخلافة يقول الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره: وحين أعطى الإسلام للملكية الخاصة مفهوم الخلافة ، جرّدها عن كلّ الامتيازات المعنوية التي اقترنت بوجودها على مرّ الزمن ، ولم يسمح للمسلم بأن ينظر إليها بوصفها مقياساً للاحترام والتقدير في المجتمع الإسلامي، ولا أن يقرنها بنوع من القيمة الاجتماعية في العلاقات المتبادلة ، حتى جاء في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا أن: ( مَن لقي فقيراً مسلماً فسلّم عليه خلاف سلامه على الغني، لقي الله عزّ وجلّ يوم القيامة وهو عليه غَضبان)، وندّد القرآن الكريم تنديداً رائعاً بالأفراد الذين يقيسون احترامهم للآخرين وعنايتهم بهم بمقاييس الثروة والغني، فقال "عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى" (عبس 1-10)، وبهذا أعاد الإسلام الملكية إلى وضعها الطبيعي وحقلها الأصيل بوصفها لوناً من ألوان الخلافة، وصمّمها ضمن الإطار الإسلامي العام بشكل لا يسمح لها بأن تعكس وجودها على غير ميدانها الخاص، أو تخلق مقاييس مادّية للاحترام والتقدير، لأنّها خلافة وليست حقّاً ذاتياً. وفي الصور الرائعة التي يتحدّث فيها القرآن الكريم عن مشاعر الملكيّة الخاصة وانعكاساتها في النفس البشرية ما يكشف بوضوح عن إيمان الإسلام بأنّ مشاعر الامتياز ومحاولات التمديد للملكية الخاصة إلى غير مجالها الأصيل تنبع في النهاية من الخطأ في مفهوم الملكية واعتبارها حقّاً ذاتياً لا خلافة لها مسؤولياتها ومنافعها. ولعل من أروع تلك الصور قصّة الرجلين اللذين أغنى الله أحدهما واستخلفه على جنّتين من جنّات الطبيعة "فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً" (الكهف 34)، إيماناً منه بأنّ ملكيّته تبرّر هذا اللون من التعالي والتسامي الذي واجه به صاحبه "وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ً" (الكهف 35)، لأنّه كان يهيئ بهذا الانحراف في فهم وظيفة ملكيّته وطبيعتها عوامل فنائها ودمارها "قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * َمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ" (الكهف 35-39)، واستشعرت أنّها خلافةٌ أمدّك الله بها لتقوم بواجباتها ، لَما أحسست بالتسامي والتعالي، ولا خالجتك مشاعر الكبرياء والزهو "إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً" (الكهف 39-42). وبهذا التقليص من وجود الملكية الخاصة وضغطها في مجالها الأصيل على أساس مفهوم الخلافة، تحوّلت الملكية في الإسلام إلى أداة لا غاية، فالمسلم الذي اندمج كيانه الروحي والنفسي مع الإسلام ينظر إلى الملكية باعتبارها وسيلة لتحقيق الهدف من الخلافة العامة وإشباع حاجات الإنسانية المتنوّعة، وليست غاية بذاتها تطلب بوصفها تجميعاً وتكديساً شَرِها لا يرتوي ولا يشبع.
https://telegram.me/buratha