الدكتور فاضل حسن شريف
تكملة للحلقة السابقة قال الله تعالى عن "آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" في كتابه الحكيم "يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ" ﴿البقرة 228﴾ يُؤْمِنَّ: يُؤْمِ فعل، نَّ ضمير، بِاللهِ: بِ حرف جر، اللهِ اسم علم، وَالْيَوْمِ: وَ حرف عطف، الْ اداة تعريف، يَوْمِ اسم، الْآخِرِ: الْ اداة تعريف، آخِرِ صفة، ولا يحل لهن أن يخفين ما خلق الله في أرحامهن من الحمل أو الحيض، إن كانت المطلقات مؤمنات حقًا بالله واليوم الآخر، و "وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ۗ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" ﴿البقرة 232﴾ واذا طلَّقتم نساءكم دون الثلاث وانتهت عدتهن من غير مراجعة لهن، فلا تضيقوا أيها الأولياء على المطلقات بمنعهن من العودة إلى أزواجهن بعقد جديد إذا أردن ذلك، وحدث التراضي شرعًا وعرفًا. ذلك يوعظ به من كان منكم صادق الإيمان بالله واليوم الآخر، و "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" ﴿البقرة 264﴾ يؤمن فعل، يا من آمنتم بالله واليوم الآخر لا تُذْهِبُوا ثواب ما تتصدقون به بالمنِّ والأذى، فهذا شبيه بالذي يخرج ماله ليراه الناس، فيُثنوا عليه، وهو لا يؤمن بالله ولا يوقن باليوم الآخر، فمثل ذلك مثل حجر أملس عليه تراب هطل عليه مطر غزير فأزاح عنه التراب، فتركه أملس لا شيء عليه، فكذلك هؤلاء المراؤون تضمحلُّ أعمالهم عند الله، ولا يجدون شيئًا من الثواب على ما أنفقوه، و "يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَـٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ" ﴿آل عمران 114﴾ يُؤْمِنُونَ: يُؤْمِنُ فعل، ونَ ضمير، يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالخير كله، وينهون عن الشر كلِّه، ويبادرون إلى فعل الخيرات، وأولئك مِن عباد الله الصالحين، و "وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا" ﴿النساء 39﴾ آمَنُوا: آمَنُ فعل، وا ضمير، وأيُّ ضرر يلحقهم لو صدَّقوا بالله واليوم الآخر اعتقادًا وعملا وأنفقوا مما أعطاهم الله باحتساب وإخلاص، والله تعالى عليم بهم وبما يعملون، وسيحاسبهم على ذلك.
جاء في معاني القرآن الكريم: أمن أصل الأمن: طمأنينة النفس وزوال الخوف، والأمن والأمانة والأمان في الأصل مصادر، ويجعل الأمان تارة اسما للحالة التي يكون عليها الإنسان في الأمن، وتارة اسما لما يؤمن عليه الإنسان، نحو قوله تعالى: "وتخونوا أماناتكم" (الانفال 27)، أي: ما ائتمنتم عليه، وقوله: "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض" (الاحزاب 27) قيل: هي كلمة التوحيد، وقيل: العدالة، وقيل: حروف التهجي، وقيل: العقل، وهو صحيح فإن العقل هو الذي بحصوله يتحصل معرفة التوحيد، وتجري العدالة وتعلم حروف التهجي، بل بحصوله تعلم كل ما في طوق البشر تعلمه، وفعل ما في طوقهم من الجميل فعله، وبه فضل على كثير ممن خلقه.
عن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة 62) التّفسير: القانون العام للنّجاة: بعد عرض لمقاطع من تاريخ بني إسرائيل، تطرح هذه الآية الكريمة مبدأ عاما في التقييم وفق المعايير الإلهية. و هذا المبدأ ينص على أن الإيمان و العمل الصالح هما أساس تقييم الأفراد، و ليس للتظاهر و التصنّع قيمة في ميزان اللّه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة 62). هذه الآية تكررت مع اختلاف يسير في سورة المائدة، الآية 72 و في سورة الحج الآية 17. سياق الآية في سورة المائدة يشير إلى أن اليهود و النصارى فخروا بدينهم، و اعتبروا أنفسهم أفضل من الآخرين، و ادّعوا بأن الجنّة خاصة بهم دون غيرهم.
جاء في موقع رافد عن أثر الإيمان والكفر علىٰ الفرد والمجتمع للكاتب عباس ذهيبات: ومن الشواهد التي تعكس لنا النَّقلة الحضاريّة الكبرىٰ التي أحدثها الإيمان علىٰ صعيد الفرد والمجتمع ما قاله جعفر بن أبي طالب قدّس سرّه للنجاشي ملك الحبشة لمّا سأله الأخير عن سبب هجرتهم ومفارقتهم دين قومهم ، فأجابه قائلاً: (أيُّها الملك، كنّا قوماً أهل جاهليّة، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منّا الضعيف، فكنّا علىٰ ذلك حتّىٰ بعث الله إلينا رسولاً منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلىٰ الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرّحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً). أثر الايمان العملي: ويظهر هذا الأثر واضحاً علىٰ أخلاق المؤمن وسلوكه، فبينما يتّبع الكافر سلوكاً إنتهازياً لا يؤمن بنظافة الوسيلة ولا شرف الغاية، ويضع مصالحه الآنية في سلّم الأولوية، غاضاً النظر عن القيم والأخلاق، نجد بالمقابل الإنسان المتسلح بالإيمان يسلك سلوكاً مثاليّاً يرتكز علىٰ الثوابت الأخلاقيّة وقواعد السلوك السوّي، والملاحظ أنّه كلّما كمل إيمان الفرد كلّما حسنت أخلاقه وتكاملت فضيلته، وفي الحديث الشريف (وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً). ونظراً لوجود هذه العلاقة بين الإيمان والأخلاق نجد التوجّهات الأخلاقيّة تحتل حيزاً كبيراً من التعاليم الدينيّة. لذلك نجد أنّ الافراد الذين يعيشون في مجتمعات بعيدة عن نور الإيمان تغلب عليهم سمة الانحطاط الخلقي، ذلك لأنَّ الحياء فرع الإيمان، بل في التعبير النبوي (الحياء والايمان في قرن واحد، فإذا سلب أحدهما تبعه الآخر). أضف إلىٰ ذلك أنّ الإيمان يوجه الفرد نحو العمل والكسب الحلال، ويحذّره من التكاسل والاتّكال علىٰ الآخرين، فمن وصايا الإمام الصادق عليه السلام لشيعته خاصّة وللمسلمين عامّة: (لا تكسلوا في طلب معايشكم، فإنَّ آباءنا قد كانوا يركضون فيها ويطلبونها).
جاء في موقع الألوكة الشرعية عن الإيمان باليوم الآخر للدكتور مثنى الزيدي: لقد كان الناس وما زالوا يَنْقسمون إلى قسمين في إيمانهم باليوم الآخر؛ فقسم آمنوا، وقسم كفروا، فأمَّا الذين كفروا فهم الذين يُسَمونهم الناس اليوم: بـ (الملاحِدة)، وهؤلاء تناقَضوا في أسباب نفْيهم اليومَ الآخر، ومن هذه الأسباب السفِيهَة التي دَعَتْهم للكفر بمثْل هذا اليوم الآخر واقتنعتْ بها عقولُهم البليدة - أنهم لا يؤمنون إلا بما يَرَون، وهذا متناقِضٌ في واقع حياتهم؛ فهم يؤمنون بالهواء ويعيشون بسببه، هل رأَوْه؟ كلاَّ، وعندما تسألُهم عن عِلَّة الْتِصاق الإنسان بالأرض، سيقولون لك: الجاذبيَّة، فالجاذبية هل رأَوْها؟ كلاَّ، وهم يؤمنون بالمئات من الحوادث في كلِّ يوم، يعتمدون عليها في رِزقهم ومعاشهم، فهل رأوها كلَّها؟ كلاَّ، فهذا هو تناقُضهم، فأعماهم وأضلَّهم، وأفسدَ عقولَهم. ولهذا اهتمَّ القرآن الكريم بهذا الركن لِحِكْمة عظيمة أرادَها الله تعالى فقَرَنَها بالإيمان به تعالى في مواضعَ عديدة من القرآن الكريم، ولا تفتأ تجدُ صفحة من القرآن إلاَّ وتتكلَّم عن هذا اليوم بصورٍ مُختلفة وأساليبَ شتَّى، ثم يرقَى الاهتمام عبر سبيل قرآنيٍّ جميلٍ، وذلك من خِلال تسمية هذا اليوم بالكثير من الأسماء التي وصلتْ إلى العشرات، بل سَمَّى عز وجل سورًا عديدة من القرآن على أسمائها، ومنها: القيامة والساعة، والصاخَّة والحاقَّة، والآخرة ويوم الدِّين، والزلزلة والقارعة، والغاشِية والآزِفَة، والطامَّة والواقعة، ويوم الخلود ويوم التَّناد، والآزفة ويوم الخروج، ويوم الْحَسرة ويوم التَّلاق، ويوم الفتْح ويوم الْجَمْع ويوم التغابُن، إلى آخر هذه الأسماء. ومن حِكمة هذا الاهتمام القرآني أنَّ الإيمان يُقوِّم نوازعَ النفْس، فيرشِّدها ويقوِّمها كلَّما تَذْكُر معادها ونهايتها ومآلَها، فيكون إنسانًا قرآنيًّا، سائرًا على أوامر الله تعالى عالِمًا بعاقبة كلِّ عملٍ، فإنْ كان خيرًا فخير، وإنْ كان شرًّا فشرٌّ، وما الحياة الدنيا إلاَّ مَحطة الاختبار. ومن حِكمة هذا الاهتمام القرآني تحذيرُ النفس من الرُّكون إلى هذه الدنيا، وجعْلِها الغاية في العيش، فلا بُدَّ لك أيُّها المؤمن أنْ تعلمَ أنَّ الغاية في الدار الآخرة وليستْ هنا، قال تعالى "وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ" (الاعراف 8-9). وهذا كلُّه بعد العودة إلى الله - عز وجل - بعد البعث، بعد الرجوع، بعد الفَزَع الأكبر، "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ" (يس 51-53).
https://telegram.me/buratha