فهد الجبوري ||
الاختلال الوظيفي في السياسات العراقية
تواصل مراكز البحوث والمواقع الخبرية تسليط الضوء على تطورات المشهد السياسي العراقي ، وإخفاق القوى السياسية في التوصل الى اتفاق وطني حول تشكيل الحكومة بالرغم من مرور حوالي ١١ شهرا على الانتخابات البرلمانية التي جرت في شهر اكتوبر من العام الماضي .
بهذا الصدد نشر الموقع الإخباري " ذي ناشونال نيوز " الأربعاء دراسة تحليلية للكاتب والباحث الأكاديمي فنر حداد تطرق فيها الى طبيعة ما يجري من تطورات في الساحة السياسية العراقية ، والتعقيدات التي توافق عملية تشكيل الحكومة ، والتوقعات المرتقبة للأحداث وماذا يحمله المستقبل من مفاجآت .
يبدأ الباحث مقالته بالحديث عن نظام النخبة السياسية التوافقي الذي طبع شكل الحكومات العراقية التي تشكلت منذ عام ٢٠٠٥ ، ويقول إن هذه القاعدة تنهار الآن . وهذا جزء من مسار طويل الأمد لتفكك النخبة ، وهي عملية تسارعت بسبب تراجع المنافسة النخبوية داخل الطائفة الواحدة من جهة ، واشتداد وتعاظم الخلافات السياسية داخل الطوائف من جهة اخرى.
ويرى الكاتب أن اتجاها اخر طويل الأمد قد تنامى وهو الفجوة الآخذة بالاتساع بين النخبة السياسية والشعب . وهذه الفجوة متجذرة في فشل الطبقة السياسية في تقديم مظهر الحكم الصالح والخدمات العامة . وقد يعترف الكثيرون ان النظام السياسي ما بعد ٢٠٠٣ وطبقة السياسيين التي هيمنت عليه لم تعد مناسبة لأداء المهمة . وهذا الشعور العام موجود على نطاق واسع ، بحيث أنه وفي محاولة للاستفادة من الخطاب الشعبوي ، كان على بعض الشخصيات الراسخة في النظام الاعتراف بذلك علنا .
ويقول الكاتب وفي السنوات الأخيرة ، فقد تقارب هاذان الاتجاهان وتوسعا . وإن الغضب الشعبي ازاء عجز الطبقات السياسية من أن ترقى الى مستوى المسؤوليات الأساسية قد اتخذ شكل الاحتجاجات الجماهيرية السنوية منذ عام ٢٠١١، وتصاعد ذلك بوتيرة عالية منذ ٢٠١٥ ، وبلغت ذروتها في ٢٠١٩ و ٢٠٢٠ على شكل تظاهرات جماهيرية واسعة النطاق . وفي إطار استجابتهم للسخط العام ، وفي حالة من التنافس ، قام اللاعبون السياسيون العراقيون باستغلال مفردات الإصلاح في محاولة لاستمالة المشاعر الشعبوية .
ويشير الباحث الى أنه فيما كانت الخطابات الشعبوية متجذرة حول قضايا الهوية والانتماء المذهبي ، فإن القضية الأكثر رواجا اليوم هي الإصلاح والتغيير .
ويقول " أكثر من تبنى هذه الفكرة من بين آخرين هو مقتدى الصدر . فقد وضع السيد الصدر نفسه في موضع بطل الإصلاح ، والمدافع القوي عن الشعب ضد النظام السياسي الذي هو جزء منه "
ويضيف " وفي مناسبات كثيرة ، قام بتحشيد قاعدته الشعبية لتنظيم احتجاجات ، أو المشاركة في الاحتجاجات غير الصدرية والسيطرة عليها . وبالتالي ، فقد جاهد من أجل تصوير نفسه بأنه راعي الشعب وراعي الاحتجاجات العامة "
ويشير الى " أن ذلك كان واضحا في مناورات السيد الصدر منذ انتخابات اكتوبر عام ٢٠٢١. وقد أفرزت تلك الانتخابات معسكرين متضادين ؛ تحالف متنوع بزعامة الصدر من جهة ، ومن الجهة الثانية ، الإطار التنسيقي بزعامة المؤسسة السياسية الشيعية الأكثر ميلا الى ايران . وكلا المجموعتين ادعى بحق تشكيل الحكومة القادمة لكن اي منهما لم يتمكن" .
وفي سياق سرده لتطورات الأحداث في العراق يقول الباحث " بعد ثمانية اشهر من الجمود والانسداد ، أمر الصدر نوابه بالاستقالة من البرلمان . وكما كان متوقعا ، فإن الانسحاب من السياسات البرلمانية يعني التحول الى قوة الشارع ؛ وقد حشد أنصاره لإعاقة تشكيل حكومة يقودها الإطار التنسيقي . وبعد وقت قصير ، قام اتباعه باحتلال البرلمان مما تسبب في احداث شلل كبير في العملية السياسية . وقد اعتبر الصدر تحديه للإطار التنسيقي بأنه ثورة ، وقد أصر على أنه لن يكون هناك حوار او تسوية سعيا وراء ميثاق سياسي جديد ، وهي نغمة موسيقية قد تطرب آذان العديد من العراقيين "
وقد ينظر للسباق على أنه صراع بين قوى الوضع الراهن مقابل قوى التغيير ، ومع ذلك فإن طبيعة التغيير الذي ينشده السيد الصدر من غير المرجح أن يتوافق مع التوقعات الشعبية خارج قاعدته . وقد سعى السيد الصدر الى توظيف المشاعر المناهضة للنظام ليصرح بالقول ان الاحتجاجات هي احتجاجات عراقية وليست مجرد قضية تخص التيار الصدري .
ويشرح الكاتب ذلك بالقول " لقد كانت ردود الفعل متناقضة . البعض من المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي وناشطي الاحتجاجات قد دعموا السيد الصدر . وهذا ربما يكون مدفوعا بالمنطق القائل " عدو عدوي هو صديقي " ، والرغبة اليائسة في زوال الطبقة السياسية والنفوذ الإيراني ، بغض النظر عمن يقود التغيير المنشود منذ فترة طويلة " .
ويضيف " الصدر قد رمى بثقله خلف الاحتجاجات المناهضة للحكومة في الماضي فقط لاستيعابها تحت نفوذه او السيطرة عليها بالكامل كما حصل خلال احتحاجات ٢٠١٩ و ٢٠٢٠ . والأكثر من ذلك هو أن العلاقة بين الحراك السياسي والصدريين لطالما كانت متناقضة ، فمن جهة يمتلك الصدر قوة الشارع ، والثقل السياسي، والرأسمال القسري الضروري لديمومة الاحتجاجات الجماهيرية، والضغط السياسي ، ومن الجهة الاخرى ، وبالرغم من نبرته الإصلاحية ، فإنه أحد أعمدة النظام السياسي ،وقد كان محوريا في تشكيل جميع الحكومات منذ عام ٢٠٠٥ . وفي الحقيقة ، فإن الصدريين هم مذنبون مثل اي جهة اخرى في قائمة طويلة من المظالم التي تحرك المشاعر المناهضة للنظام ، من الفساد الى ممارسة العنف ، الى تقويض سيادة القانون ."
ويقول " خطاب الصدر بالأساس يستهدف النظام الذي ساعد في إيجاده واستمراره " وهذا يطرح التساؤل التالي " ما هي الأهداف التي يسعى الصدر الى تحقيقها ؟ "
ويجيب بقوله " لقد أظهر الصدر قدرته في شل السياسات العراقية ، ولكن هل هو قادر على بناء البديل ؟ لقد صرح بأن هدفه هو احداث ثورة ديمقراطية تشمل انهاء حكومات التوافق ، والمحاصصة في شغل الوزارات والدوائر والمؤسسات ، وحل البرلمان ، وإجراء انتخابات جديدة ، وتقديم المسؤولين الفاسدين الى القضاء ، وتعزيز سيادة العراق وإعادة كتابة الدستور . ولكن من غير الواضح كيف يمكن تحقيق اي من تلك الأمور "
ويقول " إن هذا سيترك هذا الاحتمال ، وهو عوضا عن الإصلاح الثوري الذي يريده الكثير من العراقيين ، فإن المظهر الأكثر احتمالا لتصريحه حول " الثورة الديمقراطية " سيكون عملية اعادة تشكيل صفقة النخبة الحاكمة بطريقة تستبعد بعض من منافسيه وتجلب النظام اكثر نحو سيطرته المفرطة . وبكلمات اخرى ، وحتى اذا ما نجح الصدر في قص اجنحة الإطار التنسيقي ، وتهميش منافسيه ، لا يوجد ما يوحي بانه سوف يكون مستعدا او قادرا على تغيير جوهر وأساسيات النظام السياسي العراقي ." كما إن الصدر لا يعمل في فراغ . بغض النظر عن ابتعاده عن الإطار التنسيقي ، فإن اللاعبين السياسيين الآخرين -سواء من الشيعة أو من غيرهم ، قد تكون لديهم تحفظات حول مشروع الصدر ، ومنها تعهده بأن " الوجوه القديمة " لن يكون لها حضور في السياسة بعد اليوم ، وبالعموم ، فإن العديد داخل الطبقات السياسية متخوفون وقلقون من النظام الذي يهيمن عليه الصدر بغض النظر عن مشاعرهم نحو الإطار التنسيقي ، وفي النهاية فهو سباق وتنافس حول القوة والسلطة داخل النظام السياسي ، وهو مدفوع بالمنافسات الشخصية بقدر ما تدفعه القناعة السياسية .
وفي الجزء الأخير من مقالته ، يقول الباحث " في المستقبل القريب جدا ، سوف يكون السيناريو الأكثر سوءا هو تحول الانسداد الحالي الى صراع مسلح . ولكن لا أحد يريد مثل هذا السيناريو بالنظر الى المخاطر والخسائر التي قد تتحملها أطراف الصراع ( وبالطبع فإن التصعيد العرضي بين الجهات المسلحة المتناحرة لا يمكن استبعاده بالكامل ) . وهذا يحيلنا الى السيناريو الثاني : وهو أن مقتدى قد يتوصل الى صفقة مع الإطار التنسيقي ، او مع اجزاء منه ، والتي تستبعد أو على الأقل تهمش العناصر في الإطار التي يعارضها الصدر - ولاسيما غريمه ، رئيس الوزراء السابق نوري المالكي . والسيناريو الثالث هو ان تستمر حكومة تصريف الأعمال الحالية مع بقاء البرلمان معطلا حتى اجراء الانتخابات المبكرة . وهذا لن يمثل حلا مناسبا لانه قد يثير العديد من القضايا التقنية والقانونية والدستورية ، ولكن مع ذلك فأنه قد يعطي المزيد من الوقت الذي من شأنه تمهيد الطريق للسيناريو الثاني .
ويقول الكاتب " وفي النهاية يعتقد الصدر بقوة انه يجب أن يكون المشارك الأساسي في أي حكومة جديدة . وبذلك لن يسمح للإطار التنسيقي المضي قدما في تشكيل الحكومة ، ولن يسمح على الأرجح للبرلمان أن يعقد جلساته بدون نوابه المستقيلين . والسيناريو الأكثر احتمالا هو التوصل الى صفقة من نوع ما . والقضية المهمة التي تطرح هي : مع استمرار الأزمة والانسداد ، ومع احتمالية اجراء انتخابات جديدة ، ماذا سيكون ميزان القوى داخل السياسات العراقية ، وبالخصوص بين اللاعبين السياسيين الشيعة ، ومن هو ذلك الشخص إن وجد، الذي سيتم تهميشه واستبعاده من صفقة المساومة ؟ ومع كل الترقب الذي يحيط بالأحداث الراهنة والآمال بخصوص " التغيير الثوري " فإن لعبة القوة عند الصدر قد تم تصنيفها بالفعل بالثورة من قبل بعض المراقبين - ولربما فإن التنبوء الأسهل الذي يمكن القيام به هو أن التطلعات السياسية للشعب العراقي سوف تبقى مرة اخرى غير محققة .
الباحث والأكاديمي فنر حداد : أستاذ في جامعة كوبنهاغن . وباحث في معهد الشرق الأوسط في جامعة سنغافورة ، وباحث زائر في جامعة لندن . له كتاب تحت عنوان " الطائفية في العراق " صدر عام ٢٠١١. كما لديه كتاب آخر بعنوان " فهم الطائفية : علاقات السنة والشيعة في العالم العربي المعاصر "