حسن الهاشمي
مع سعة متطلبات الحياة اليومية في عصرنا الحاضر، هل يمكن للإنسان أن يتصف بالقناعة، من دون أن تزل قدمه في التطاول على المال العام أو السرقة أو إذلال النفس بالطلب ولاسيما من أصحاب النفوس المريضة؟ وقبل الإجابة على السؤال المذكور لا بأس باستذكار معنى القناعة وحدودها ومحاسنها ولكي نسعى إلى بناء مجتمع تسوده الأخلاق الحميدة والسجايا الفاضلة والسعادة الوافرة، وندع وراء ظهورنا كل ما يمت للفقر والفساد والتمزق الطبقي بصلة، ولكي نرتقي إلى حالة التعايش والتآخي والتكافل، لابد لنا من التمسك بعروة القناعة وهي: الاكتفاء من المال بقدر الحاجة والكفاف، وعدم الاهتمام فيما زاد عن ذلك.والقناعة صفة كريمة، تعرب عن عزة النفس، وشرف الوجدان، وكرم الأخلاق، إنما صار القانع من أغنى الناس، لأن حقيقة الغنى هي: عدم الحاجة إلى الناس، والقانع راض ومكتف بما رزقه اللّه، لا يحتاج ولا يسأل سوى اللّه.قيل: لما مات جالينوس وُجد في جيبه رقعة مكتوب فيها: «ما أكلته مقتصداً فلجسمك، وما تصدقت به فلروحك، وما خلفته فلغيرك، والمحسن حيّ وإن نقلَ إلى دار البلى، والمسيء ميت وإن بقي في دار الدنيا، والقناعة تستر الخِلة، والتدبير يكثّر القليل، وليس لابن آدم أنفع من التوكل على اللّه سبحانه».فإن العبد المقتنع الشكور إذا ما ضاقت به الأمور يتوجه بقلب مكسور إلى من بيده خزائن السماوات والأرض الرزاق ذو القوة المتين، فإنه يغدق عليه من البركة والصحة والكرامة ما يغنيه عن الدنيا وما فيها، حتى إذا لم تستجاب دعوته ويتحمل الفقر والعوز ويصبر ويحتسب ذلك في الله وفي سبيل الله فله من العزة في الدنيا والأجر الوفير في الآخرة، ويكفي القانع روحيته السامية وعزة نفسه الأبية واحتفاظه بماء وجهه وكرامته من أن يبذلها لإنسان محتاج مثله، لاسيما إذا كان صاحب سطوة وسلطان فإن إراقة ماء الوجه لمثل هؤلاء هي إراقة للدين والمثل وعبودية من أجل الحصول على حفنة من مال أو جاه أو منصب، ولكن على حساب الدين والكرامة التي هي أغلى شيء في حياة الإنسان ولا يمكن الاحتفاظ بهما إلا من خلال الاتكال على الله تعالى في كل صغيرة وكبيرة فهو حسبنا ونعم الوكيل، وما عند الله باق وما عند الطغاة والمتكبرون ينفذ ويضمحل ويزول.وشكى رجل إلى أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام أنّه يطلب فيصيب، ولا يقنع، وتنازعه نفسه إلى ما هو أكثر منه، وقال: علمني شيئاً أنتفع به، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام «إن كان ما يكفيك يغنيك، فأدنى ما فيها يغنيك، وإن كان ما يكفيك لا يغنيك، فكل ما فيها لا يغنيك».وقال الباقر عليه السلام: «إياك أن يطمح بصرك إلى من هو فوقك فكفى بما قال الله تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وآله «ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم» وقال: « وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى» - طه - الآية - 131 ، فان دخلك من ذلك شيء، فاذكر عيش رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، فإنما كان قوته الشعير، وحلوه التمر، ووقوده السعف إذا وجده.ومن محاسن القناعة: إن لها أهمية كبرى، وأثر بالغ في حياة الإنسان، وتحقيق رخائه النفسي والجسمي، فهي تحرره من عبودية المادة، واسترقاق الحرص والطمع، وعنائهما المرهق، وهوانهما المُذل ، وتنفخ فيه روح العزة، والكرامة، والإباء، والعفة، والترفع عن الدنايا، واستدرار عطف اللئام.والقانع بالكفاف أسعد حياة، وأرخى بالاً، وأكثر دعة واستقراراً، من الحريص المتفاني في سبيل أطماعه وحرصه، والذي لا ينفك عن القلق والمتاعب والهموم.والقناعة بعد هذا تمدّ صاحبها بيقظة روحية، وبصيرة نافذة، وتحفـّزه على التأهب للآخرة، بالأعمال الصالحة، وتوفير بواعث السعادة فيها.ومن طريف ما أثر في القناعة: إن الخليل بن أحمد الفراهيدي كان يقاسي الضُّر بين اخصاص البصرة، وأصحابه يقتسمون الرغائب بعلمه في النواحي، ذكروا أن سليمان بن علي العباسي، وجه إليه من الأحواز لكسب وده، فأخرج الخليل إلى رسول سليمان خبزاً يابساً، وقال: كل فما عندي غيره، وما دمت أجده فلا حاجة لي إلى سليمان، فقال الرسول: فما أبلغه؟ فقال:أبلغ سليمان إني عنه في سعة*** وفي غنىً غير إني لست ذا مالوالفقر في النفس لا في المال فاعرفه*** ومثل ذاك الغنى في النفس لا المالفالرزق عن قدر لا العجز ينقصه*** ولا يزيدك فيه حول محتالوفي كشكول البهائي «أنه أرسل عثمان بن عفان مع عبد له كيساً من الدراهم إلى أبي ذر الغفاري وقال له: إن قبل هذا فأنت حُرّ، فأتى الغلام بالكيس إلى أبي ذر، وألح عليه في قبوله، فلم يقبل، فقال له: أقبله فإن فيه عتقي. فقال: نعم ولكن فيه رقّي». ما أجمل هذا الرد من قبل أبي ذر رحمة الله عليه.وقصة أخرى «كان ديوجانس الكلبي من أساطين حكماء اليونان، وكان متقشفاً. زاهداً، لا يقتني شيئاً، ولا يأوي إلى منزل، دعاه الاسكندر إلى مجلسه، فقال للرسول قل له: إن الذي منعك من المسير إلينا، هو الذي منعنا من المسير إليك، منعك استغناؤك عنّا بسلطانك، ومنعني استغنائي عنك بقناعتي».وكتب المنصور العباسي إلى أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام: لِمَ لا تغشانا كما يغشانا الناس؟ فأجابه: ليس لنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنيك بها، ولا في نقمة فنعزيك بها. فكتب المنصور: تصحبنا لتنصحنا. فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: «من يطلب الدنيا لا ينصحك، ومن يطلب الآخرة لا يصحبك».وما أحلى قول أبي فراس الحمداني في القناعة عندما قال:إنّ الغني هو الغني بنفسه*** ولو أنّه عار المناكب حافما كل ما فوق البسيطة كافياً*** فإذا قنعت فكل شيء كافوكما قيل في محله إن القناعة كنز لا يفنى، فكثير من الجرائم ترتكب إنما دوافعها الجشع والطمع وعدم اقتناع المرء بما أوتي من رزق أو إمكانات، وليست القناعة التشجيع على الكسل وعدم مطالبة الرزق وعدم السعي من أجل تحصيله، وإنما القناعة هو القبول بما رزق الله تعالى بعد السعي وبذل الجهد في الكسب الحلال، والغنى هو غنى النفس وليس غنى المال، حيث إن المال يفنى وسمو النفس باقية إلى الأبد تشع دروب الأحرار في شق طريق الحرية وعدم العبودية لغير ذات الله المقدسة، فانتهاج نهج القناعة مطلوب في الغنى وهو عدم التبذير وتفريق الفائض من الأموال على المحتاجين المتعففين، وانتهاج القناعة كذلك في الفقير وذلك في الإحجام عن سؤال أحد سوى الله تعالى، والقناعة بما رزقه الله حيث إنها تهب للقانع من العزة والكرامة ما لا يحصل عليهما سوى في ساحة قدسه تعالى.وإذا كانت القناعة هي السائدة عند الإخوة في الدولة الديمقراطية الفتية في عراقنا الحبيب؟! وإذا ما اقتنع الإخوة في الرئاسات الثلاث برواتبهم وامتيازاتهم التي تفوق مثيلاتها في جميع أصقاع العالم؟! وإذا ما أكبح الوزراء والوكلاء والمدراء والمقاولون جماح الطمع والجشع في نفوسهم؟! وإذا ما اكتفى الإخوة جميعا بتلك القناعة المترفة ولم يسل لعابهم على مخصصات المنافع الاجتماعية ولا على الإمتيازات والإيجارات والسيارات والحمايات والمقاولات والإيفادات والأتاوات مع هن وهن...؟! وإذا ما تسابقوا لبناء دولة المؤسسات لمحاسبة المتطاولين والإرهابيين وإنزال العقاب الصارم الذي يستحقونه بدلا من لهثهم لمنافعهم وثرائهم ومجدهم وترفهم وطغيانهم وعنجهياتهم لما رأينا مدرسة من طين، ونحن نمتلك ثاني احتياطي بترول في العالم؟!!! ولما رأينا الفقر والحرمان يضرب بأطنابه معظم مدن الوسط والجنوب!!! ولما رأينا طفح المجاري وبرك المياه الآسنة وميزانيتنا لهذه السنة أكثر من تسعين مليار دولار وإنها تفوق ميزانية الكثير من الدول المجاورة والناهضة!!! ولما رأينا بيوتا من صفيح وسعف!!! ولما رأينا البصرة ومحافظات البترول تعاني من نقص حاد في الكهرباء بالرغم من مرور ثمان سنوات على التغيير، بيد إن محافظات إقليم كردستان قد قضت على مشكلة اسمها الكهرباء وإن معظم ميزانيتها من خيرات الجنوب!!! ولما رأينا العجب العجاب من هروب المتطاولين على المال العام والإرهابيين من السجون التي هي بمثابة فنادق خمس نجوم لهم لإثرائهم وإيغالهم في جرائمهم أكثر وأكثر. وإذا سار المسؤول في فلك القناعة المترفة - وهو أضعف الإيمان- ولو ترك قليلا طموحه غير المشروع في الجشع والطمع الذي سيذوق وبال أمره في الدنيا قبل الآخرة، وهو يرى شعبا يتلوى من شحة الخدمات ويئن من وطأة المفخخات ويتعذب من هوة القادمات، لما حصلت كل تلك المصائب والمحن والمآثم. فالشعب العراقي قد ضاق ذرعا بالأنظمة الفاسدة، وهو القانع المعتر في الوقت الحاضر، وهو أولى بالتعرض للمعروف من غير أن يسأل في زمن الحرية والديمقراطية، فلا تجعلوها غصة في حلقه بتصرفاتكم المشينة؟!!!.
https://telegram.me/buratha