مقال للكاتب والإعلامي قاسم العجرش
بدأت العملية السياسية التي أعقبت تغيير نظام القهر والإذلال ألصدامي منذ قرابة ثماني سنوات بشكل، ووصلت الآن إلى شكل، وستستقر على شكل آخر بدأت ملامحه بالتشكل وئيدا، ونعترف أن العملية السياسية بدأت طوباوية بعض الشيء، فقد كنا نتصور في بداياتها أن الجميع يريدون الحق والخلاص من الباطل وآلامه وآثامه، وكنا كالصغار الذين عثروا على كيس من الجوز واختلفوا على توزيعه، فقد قال الذي عثر عليه أولا أنه من حقه لأنه هو الذي عثر عليه أولا وليس سواه، فيما قال آخرون نحن كنا معك عندما عثرت عليه ولا بد أن نكون شركاء، غير أن أولاد عمومة الأول قالوا نحن أولاد عمومته ونحن الأولى، وهكذا استمروا في الخصام إلا أن لاح لهم في وسط الطريق الملا نصر الدين، فقالوا ها هو رجل دين وسنحتكم إليه، وفعلا ما إن أقترب (الملا) منهم حتى هرعوا إليه طالبين منه حسم الخلاف حول الجوز الذي أوشك أن يتحول إلى عراك بينهم، فحرك الملا نصر الدين عمامته إلى الخلف مظهرا جزءا من صلع وحك رأسه إلى أن اهتدى إلى الحل كما أعتقد، وبدأ الملا حله للمعضلة للصبية بالقول متسائلا؟ أحبتي الصغار، طبعا كلكم من المطيعين لله تعالى؟ فأجاب الصبية بصوت واحد: نعم مولانا الملا! فأستثمر الملا إجابتهم ليعزز قدرته على الحل: ومن المؤكد أنكم تريدون قسمة الله لا قسمة العبد؟ فرد الصبية بذات الصوت الموحد: ومن لا يرضى بقسمة الله؟ فقال الملا: حسنا تعالوا أقسم عليكم كيس الجوز بقسمة الله، فقبلوا ذلك مستبشرين، فأخذ الكيس منهم وأعطى لأحدهم خمس جوزات فيما أعطى آخر ثلاثة جوزات وأعطى ثالث جوزة واحدة ورابع ست جوزات وخامس وسادس كسر جوزة بينهما! فتعجب الصبية من قسمة الملا وضنوا أنه غير عادل فقالوا: هذه ليست عدالة والله يعطي الرعية بالسوية، فرد الملا : كلا ليس العدل كما تضنون، فبعض الناس أعطاه الله خمسة أولاد وبعضهم عاقر لا ينجب، وثالث له من البنين والبنات من زوجتيه عشرة وهكذا، فسكت الصبية وأخذوا ما قسمه لهم الملا من جوز بتبرم، لكنهم بقوا غير معتقدين بمساواة الملا بينهم... عمليتنا السياسية من هذا النمط من العدل، فيعتقد الجميع أنهم يجب أن يتساووا في الحقوق والواجبات بغض النظر عن حجمهم الحقيقي وعن وجودهم السياسي وعن مقدار ما قدموا من عطاء للوصول بالبلاد إلى فضاء الحرية والإنعتاق بعد أن كان مجرد التفكير بالخلاص من نظام الدموية ألبعثي ضرب من الخيال... ولكي نكون منطقيين فمطلب مساواة العراقيين بخط شروع واحد مطلب غير واقعي وإن بدا منسجما مع قيم المساواة، فالمساواة شيء والعدالة شيء، فالمساواة شأن غير قابل للتحقيق سيما باختلاف العطاء الإنساني، نعم نتفق على أن المساواة بالوجود الإنساني أمر لا مفر من الإقرار به، ونعم أن المساواة شرط من شروط استحقاقات المواطنة وامتيازاتها إبتداءا، بينما العدالة لها منطلقات غير منطلقات المساواة، فهي أولا يجب أن تعني إنصاف المظلوم وتعويضه عن حرمانه من استحقاقاته الوطنية التي يفرضها مبدأ المساواة، وإيجاد حلول واقعية لمشكلة هضم حقوقه الثابتة ومن بينها حقه بالوجود الإنساني الذي كان مستلبا لسنين طوال، وتعني العدالة توزيع عادل للثروات ينطلق من محورين، أولهما أننا شركاء في الوطن وثرواته ملك للجميع بما هم (مشاركون) في البناء، لا بما هم (مستفيدون) فحسب، أما الذين يتصرفون بسلبية وبروح الأخذ لا بروح العطاء، فالشراكة معهم غير مجدية، وبالتالي فإن اشتراكهم بالثروات يجب أن يكون موضع نظر، ومثال هذه الحالة ينصرف إلى الفئة السياسية أو المجموعة البشرية التي تتصرف مع باقي المكونات تصرفا ضارا يربك أسس التعايش، و يجب أن لا يمر تصرفها هذا دون عقاب وطني، ومن بين أنجع الأساليب في هذا الصدد هو حرمانها من نعم الوطن لكفرها بها، والمنطلق الثاني أن يكون الجميع مشاركين بالعطاء، فالذين تنطوي مناطقهم على ثروات قليلة يتعين أن يوازنوا هذا الفقر بالعطاء المادي بعطاء من نوع آخر يقلص الفجوة في العطاء، وعلى هذا فأن عدالة توزيع الثروات ينبغي أن تشمل فقط الأفراد والجماعات والمناطق التي (تقدم) لا تلك التي (تأخذ) فقط، وبهذا يتم خلق مجتمع منتج فاعل بعطاء منوع، وتعني العدالة أيضا عدم استحواذ جماعة عرقية أو سياسية على مقاليد الأمور فارضة رؤاها وطريقتها في تصريف الأمور على الآخرين. إن فهما يؤسس على أن العدالة تعني أن القرار الوطني قرار يشترك فيه الجميع بمقدار وجودهم وثقلهم البشري،هو الفهم الذي ينبغي أن يسود في عراق ما بعد الأحادية الحزبية والفئوية وفردانية القيادة، لا بمقدار علو أصواتهم، كما هو حاصل في مرحلة التشكل السياسي الحالية التي نمر بها، فبعض المكونات الاجتماعية ما زالت تتصور أن إعلاء الصوت ( بطرق الإعلاء المختلفة) طريقة مناسبة لنيل أقصى ما يمكن من امتيازات شخصية كانت أم فئوية، ولنا في موضوع تمرير القوانين المختلفة في مجلس النواب الحالي مثال حي فكلما تم عرض مشروع قانون يرفع ممثلو هذا المكون أو ذاك في وجه إقراره جملة من العوارض التي لا تتعلق به البتة! وكل ذلك من أجل الحصول على امتيازات غير عادلة بطرق غير عادلة. وفي مجتمع تسوده قيم العدالة تتحقق الكفاية الاجتماعية والاقتصادية لجميع الشركاء، والكفاية الاجتماعية والاقتصادية تؤدي إلى تمازج اجتماعي واقعي يقلص بالنهاية الاختلافات بين المكونات، بل وينهي أسطورة وجود مكونات ويصهرها محيلا إياها إلى تشكل جديد تولد على أثره أمة بمواصفات راقية وهو ما نطمح إليه. إن عدالة توزيع الجوز التي مارسها الملا نصر الدين عدالة واقعية، وهي مبنية على معطى واقعي، ومثل هذه العدالة تمتلك مقومات الحياة والاستمرار، أما عدالة الاتفاقات بين القادة السياسيين المنية على وهم المساواة، فتلك لن تحيا قط، بل وسيكون من ثمارها أزمات متلاحقة تولد أزمات أخرى تحيل مجتمع الأمل المتوحد الذي نعمل عليه ونحلم به، إلى كتل بشرية يُحجب بعضها عن بعض بكتل بشرية أخرى مغايرة لها ومناقضة لها في كل شيء،لا يجمعها جامع إلا جامع الأرض وهو جامع واهن إن لم يكن أوهن الجوامع على الإطلاق.
https://telegram.me/buratha