حبيب تومي
لست مبالغاً في قولي بأن اعتدال ووسطية الأستاذ مسعود البارزاني قد اتاحت له بأن يتبوأ مكانة محترمة ومقبولة من كافة الأطراف على الساحة السياسية للعراق الفيدرالي وفي اقليم كوردستان والمنطقة ايضاً ، في مواقف كثيرة عسيرة شديدة التعقيد اثبت الرئيس مسعود البارزاني أنه رجل المهمات الصعبة ويشكل صمام امان في ايقاف تدهور الاوضاع نحو الأسوأ ، فيصار الى إنهاء الأزمة ، وقد توج جهوده بطرحه المبادرة الأخيرة التي وضعت حداً لأزمة سياسية ماراثونية دامت تسعة أشهر ونيف تخللتها تجاذبات سياسية بين مختلف القوائم والتحالفات الفائزة في انتخابات أذار من العام المنصرم ، ويعزى الى تلك المبادرة إخراج الوضع السياسي العراقي المتأزم من عنق الزجاجة التي علق فيها طيلة تلك المدة .من ناحية تحقيق الأمن ينبغي التسليم بوجود خيط رفيع بين المحافظة على الأمن والأستقرار وبين إطلاق الحريات على نموذج الديمقراطيات الغربية ، وإذا كان هنالك من الخيار بيد مسعود البازارني والحكومة الكوردية فإن حفظ الأمن والأستقرار يأتي في المرتبة الأولى قبل الحرية .مرة من المرات في طريقي من القوش الى عينكاوا ، صادف في نقطة التفتيش قرب اربيل ارتال سيارات متراصة تنتظر دورها لإجراءات التفتيش ، وقد اشار السائق الذي يقلني الى قوافل السيارات التي تتعرض الى تفتيش دقيق ، وأبدى السائق امتعاضه بسبب التأخير ، وكان يتوقع مني ان ابدي له نفس الأستياء من الحالة ، واستغرب حينما عبرت عن الرضى عن تلك الحالة من الأنتظار او من التفتيش الدقيق ، وقلت ان مرور هذه السيارات دون تفتيش دقيق سيكون ثمنه تسرب السيارات المفخخة وحاملي الأحزمة الناسفة الذين يفجرونها وسط تجمعات السكان الآمنين ، ومن هنا فإن الأمن والأستقرار لهما ثمن ، والمواطن هو الذي يتحمل جزء من هذا الثمن من وقته ومن راحته ومن حريته ايضاً ، فأيهما افضل ان يضحي بتلك الضريبة ام تعرضه لانفجار سيارة او حزام ناسف وهو جالس في مطعم او مأتم او يصلي في كنيسة او مسجد ؟إن الأمن والأستقرار يتطلبان هيبة الدولة وقوتها ، وإن حدث خلل او اختراق او فراغ سياسي سيكون ثمنه غالياً يدفعه المواطن من عامة الشعب والأحزاب السياسية والمعارضة على حد سواء ، ولكن مع ذلك نلاحظ ان حركة التغيير المعارضة قد طرحت مطلباً يقضي بإسقاط رئاسة اقليم كوردستان وحكومته وحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة . لا شك ان حركة التغيير حركة سياسية لها وزنها في اقليم كوردستان ، وإن كان تاريخ تشكيلها التنظيمي لا يمتد الى سنين وعقود طويلة فإن كوادرها يتمتعون بخبرة سياسية تمتد لسنين وعقود ، وهذا يكفي لتقدير الأوضاع بشكل عقلاني منصف ، ومن المؤكد تقدر ما يفرزه الفراغ السياسي من ظروف مواتية لانبعاث التطرف واالغلو ، وانتعاش النزعات الهدامة الهادفة الى تهميش دور الدولة في تطبيق النظام والقانون وإغراق البلاد في مستنقع الفوضى العارمة يصبح من الصعوبة بمكان كبح جماحه وأيقاف نتائجه الكارثية . والتجربة العراقية المريرة بعد سقوط النظام في 2003 ماثلة امامنا من هول المآسي التي حلت بهذا الشعب المنكوب وهي مستمرة حتى اللحظة . إن حركة التغيير نفت نيتها بترجمة بيانها الى تظاهرات ميدانية. وطالبت باستقالة حكومة إقليم كردستان الحالية وحل البرلمان ... ويثب سؤال الذي يقول : هل يعني هذا ان الأنتخابات السابقة كانت مزورة ؟ وكيف فازت الحركة بهذا القدر من المقاعد إن كانت الأنتخابات مزورة الى هذا الحد ؟ ولماذا لم تطالب الحركة بإلغائها في اوقات اخرى ؟ إن بيان الحكومة اكد ان «المطالب التي جاء بها البيان غير شرعية، ليس فقط لدى الحكومة، بل عند افراد الشعب ايضاً، اذ ان خلط الاوضاع والتظاهرات في بعض دول المنطقة ومقارنتها بالعملية السياسية في الاقليم غير واقعي وبعيد عن أحاسيس ووجدان شعب كردستان، حيث إن تجربة الحكم الكردية ومؤسسات الحكم جاءت عن طريق انتخابات ديموقراطية صحيحة ..إن بيان الحكومة لم ينف وجود نواقص في تجربة الحكم الكردية، لكنه أكد أن «الحكومة بدأت جملة إصلاحات وأصدرت قرارات مهمة في طريق الإصلاح .سوف نبقى في وسطية البارزاني ومدى نجاحها في قيادة سفينة الشعب الكوردي ، إن مسعود البارزاني له تاريخ مشهود في السلم والحرب ولم يكن يوماً دكتاتوري القرار ، لقد اشرك الجميع في قيادة السفينة الكوردستانية وبالتشاور مع الجميع في حل الأزمات . والشئ بالشئ يذكر فإن كانت الحكومة العراقية قد واجهت المشاكل الناجمة عن اجتثاث البعث وقدمت تنازلات تلو التنازلات ، فإن القيادة الكوردية كانت ذكية بالعفو عن الذين وقفوا الى جانب الحكومات السابقة ضد الثورة الكوردية وأدمجتهم في العملية السياسية والأجتماعية لكي لا يتخندقوا في مربع العداء للعملية البنائية السلمية في اقليم كوردستان . وهنالك نقاط اخرى منها موقف البارزاني الواضح من مسألة فتح ابواب اقليم كوردستان امام المسيحيين من كلدان وغيرهم من المسيحيين ومن المندائيين الذي هجروا من مدن العراق ، فكان التعامل معهم كمواطنين من الدرجة الأولى . (( إن هذا الموقف من الرئيس البارزاني يشجعني للأعراب عن استغرابي في مسألة هضم الحقوق القومية للشعب الكلداني بإلغاء اسم قوميتهم الكلدانية من مسودة الدستور الكوردستاني ، بالأضافة الى تهميشهم في العملية السياسية في الأقليم وقبول بوصاية ألاخرين عليهم ، أنا استغرب من هذا الموقف ، فالكلدانيون ناضلوا الى جانب الشعب الكوردي في ايام نضاله المسلح وقدموا الشهداء والتضحيات ، واليوم مع الأسف بدلاً من مكافأتهم على موقفهم الشريف هذا في أقليم كوردستان ، اصبح مصيرهم التهميش وهضم حقوقهم القومية والسياسية )) . في المجمل العام ثمة شواهد كثيرة تظهر بجلاء ليس مساحة قليلة من التقدم والأستقرار والرخاء في اقليم كوردستان ، الى جانب ملاحظة توفر فسحة معتدلة من حرية الأحزاب وحرية الصحافة والتعبير ، ومن باب الحرية هذا نستشرف على آراء تقول بوجود الفساد والمحسوبية وغيرها ، إنا برأيي ان هذا النقد ينبغي ان يناقش للوقوع على الحقيقة ، وهو منفذ لمكافحة الفساد بكل انواعه إن كان مالي او اداري . إن اللجوء الى الشارع يصار حينما توصد ابواب الحوار والتفاهم بين المعارضة والحكومة ، وحينما تكمم الأفواه وتكبل الصحافة وتمنع حرية الرأي ويستشري الفساد في كل مفاصل الحياة ، ولا يكون هناك اي منفذ لأبداء الرأي ، حينذاك تسلك كل الطرق بما فيها النزول الى الشارع لتجييش الجماهير وشحن عواطفها لقلب الأوضاع رأساً على عقب وكما حدث في تونس قبل اسابع وما يحدث في مصر اليوم .إن المفكر الألماني ماكس فيبر يرى شرعية السلطة تعتمد على ثلاثة مصادر وهي التاريخية او الكارزمية او النظامية ، والتاريخية هي في النظام الملكي ، والنظامية هي طريق الأنتخابات والكارزمية هي شرعية التاريخ النضالي وكما كانت منزلة عبد الناصر في مصر وفي العالم العربي ايام المد الثوري للفكر القومي العروبي .في هذا السياق سيكون تاريخ الأستاذ مسعود البازراني ليس وليد الأنتخابات التي فاز بها بثقة شعبه فحسب ، إنما يكتسب كارزميته بين افراد شعبه من تاريخه النضالي وسط الثورة الكوردية في بداية العقد السابع من القرن الماضي ، وفي تشكيلة السلطات في الأقليم نجد امامنا حكومة منبثقة من برلمان منتخب وفق لعبة التنافس السياسي بين مختلف القوى والأحزاب الكوردستانية ، ونجد امامنا معارضة سياسية سليمة بعيدة عن المنحى الطائفي الذي يسود العراق الأتحادي . لا يمكن الزعم ان التقدم العمراني في الأقليم وصل الى نظيره في دبي ، وإن تجربته الديمقراطية قد لحقت بسويسرا ، كلا ان ألأقليم هو جزء من العالم الثالث ويعاني من نفس الأمراض وخرج من اتون الحروب والقمع لعقود طويلة ، ولا يمكن ان تلغي الروح العشائرية والمحسوبية التي كانت راسخة خلال عقود وقرون ، إن تلك الوشائج هي بيئة صالحة لتسرب الفساد الأداري والمالي وفي تزوير الأنتخابات وفي التغطية في التقصير بإداء الواجب والى آخره من مظاهر الفساد .إن القضاء على الفساد بأنواعه يتطلب تضافر جهود الحكومة والشعب ، فالحكومة تمنع الرشوة في حين المواطن يغري الموظف بدفع الرشوة لتمرير معاملته بالألتفاف على القانون والتهرب من الطرق الأصولية في المعاملات . كل هذه امراض اجتماعية لا يمكن القضاء عليها بقرار حكومي عابر ، إنما يجري تجاوزها بمنظومة من الجهود المشتركة بين المجتمع والدولة . إن ما جرى في تونس وما يجري في مصر والرياح والعاصفة لم تهدأ في منطقتنا العربية ، ووقفت على مقال لاحد الكتاب حينما اورد قول لكونفوشيوس يبديه لاحد تلاميذه مفاده : إنك لتحكم شعب تحتاج الى ثلاثة اشياء وهي السلاح والخبز والثقة . وإن فقدت السلاح يمكن ان يبقى الشعب معك وكذلك الخبز ، لكن إن فقدت ثقة الشعب ، فمهما فعلت سوف تكون غير مرغوب فيه . هذه هي طبيعة البشر والأحداث الأخيرة تنطبق على هذه النظرية .إن المسالة في اقليم كوردستان تحتاج الى رجاحة العقل والحكمة والى الثقة المتبادلة بين الأطراف السياسية للنهوض بمختلف نواحي الحياة ، إن تجربة كوردستان يمكن ان تشكل نموذج فذ يقتدى به ويضرب به المثل في المنطقة والعالم خاصة وإن هذا الأقليم يملك المقومات لهذا التقدم من الموارد المالية والبشرية ما يلائمه للقيام بهذا الدور ، وسيشكل ذلك صفحة بيضاء في جبين الوطن العراقي الذي نتمنى له النهوض نحو التطور والتقدم .حبيب تومي / اوسلو
https://telegram.me/buratha