الدكتور يوسف السعيدي
ملك ملوك افريقيا...عميد الحكام العرب------------------------------------------بعد ابتكار وإنشاء أول جماهيرية في التاريخ، ابتكر العقيد القذافي سيارة تشكل "مستقبل صناعة السيّارات" في العالـم (على الأرجح). السيارة الـمقصودة، هنا، ليست مجازاً لشيء آخر، بل سيّارة حقيقية من تصميم العقيد. وقد جاء الإعلان عنها، كما عُرض نموذجان منها في العاصمة الليبية في الذكرى الأربعين "لثورة" الفاتح.السيارة اسمها الصاروخ. طولها خمسة أمتار ونصف الـمتر. صُممت على هيئة زورق "لتأمين حد أقصى من السلامة". مُوّلت برؤوس أموال ليبية. تولّت تصنيعها شركة إيطالية. وتُقدّر تكلفة النموذج الأول بمليوني يورو، أي ما يناهز ثلاثة ملايين دولار.وفي الكتيّب الذي وزّع على الصحافيين في طرابلس ما يفيد بأن فريق الـمهندسين والخبراء الإيطاليين التزم حرفياً بالتصميم الذي وضعه العقيد "لإنتاج السيارة الـمثالية وفق رؤية الزعيم". الإسهام الليبي لـم يقتصر على التصميم، بل شمل، أيضاً، "استخدام الجلد والأقمشة الليبية لتجهيز السيارة من الداخل". انتهى الخبر.ــ2ــهل ثمة ما يستحق التعليق؟لا أعتقد. ربما ثمة ما يستحق التذكير بأشياء من نوع: أن العقيد جرّب مهنة الـمُفكر، ولا يزال مولعاً بها حتى يوم الناس هذا، ولا تزال قناعته راسخة بأن تبني البشرية للكتاب الأخضر سيحميها من الشرور ويخلصها من الآثام. وإلى جانب الـمُفكر جرّب مهنة الـموّحد فحاول جاهداً توحيد العالـم العربي، وعندما أعيته الحيلة والوسيلة وضع القارة الإفريقية نصب عينيه، لعل وعسى.وإلى جانب الـمفكر والـموّحد جرّب مهنة الأديب فكتب القصص القصيرة، وأفتى في شؤون الأدب. وإلى جانب الـمفكر والـموّحد والأديب جرّب مهنة الـمهندس، فشق النهر الصناعي العظيم، وكتب على ألواح دُفنت في الصحراء الليبية (ذكرى للأجيال القادمة) ما يفيد بأن ولادة النهر تمت على يده وفي عهده. في احد الايام طالب الأمم الـمتحدة بتفكيك سويسرا. والطلب الأخير يندرج في قائمة طويلة من الطلبات والـمبادرات الـمبتكرة على مدار العقود الأربعة الـماضية.إلى جانب كل ما تقدّم أطلق العقيد على نفسه تسميات مختلفة من نوع:قائد ثورة الفاتح. وأمين القومية العربية. ومفجّر عصر الجماهير. والقائد الأممي الثائر. وإمام الـمسلـمين. وقائد القيادة الشعبية الإسلامية. وعميد الحكّام العرب. وملك ملوك إفريقيا (وقد بويع وتسلّم تاج الـملك وصولجانه من بعض ملوك القبائل الإفريقية). وفي عهده أصبح الاسم الرسمي لليبيا "الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى". وفي السياق نفسه ابتكر تقويماً جديداً بدل التقويم الهجري، وأسماء جديدة لشهور السنة بدل الأسماء القديمة.ــ3ــما تقدّم غيض من فيض. فالتجليات الإبداعية للعقيد كثيرة ومثيرة. ومع ذلك ثمة ما يستحق التأمل، وما يمكن أن يُصاغ في أسئلة من نوع:كيف نفسر التناقض بين تراكم الألقاب والـمهن من ناحية وفشل أغلب مشاريع السياسة الداخلية والخارجية من ناحية ثانية، وكيف يمكن على خلفية تناقض كهذا تفسير بقاء العقيد مدة أربعة عقود في الحكم، وهي مرشحة للاستمرار بطريقة مباشرة ما دام على قيد الحياة، ومرّشحة للاستمرار بطريقة غير مباشرة بتوريث الحكم لأحد أبنائه؟.للوهلة الأولى يبدو العقيد القذافي بلا مثيل بين الحكّام العرب. ومع ذلك من شأن نظرة متفحصة اكتشاف أن الفرق في الكم لا في الكيف، وأن ما يمثله من حالة قد تبدو متطرفة نوعاً ما يمثل اختزالاً وتنويعاً وتضخيماً لخصوصية أكثر ديمومة تسم الحكّام العرب.فمحاولة تجريب مهن مختلفة، وإطلاق الطاقة "الإبداعية" للحاكم العربي في مجالات لا تعد ولا تحصى، أمر مألوف. صدّام المقبور العفلقي، مثلاً، حاول تمثيل دور الـمفكر والأديب والـموّحد والـمهندس والجنرال، فكتب الروايات، وصمم النصب التذكارية، وصاغ نظريات قومية، ووضع خططاً عسكريةً، واجتهد في علوم التاريخ والاجتماع. وحكّام الجمهوريات الـملكية في العالـم العربي يملكون سلطات توازي أو تتجاوز سلطة الـملوك، وأغلبهم يمهدون لتوريث الحكم لأبنائهم وأقاربهم، بعدما افتتح الأسد الأب عهد التوريث في سورية.والسؤال الأهم: هل نجح هؤلاء في البقاء في سدة الحكم، وفي إنشاء جمهوريات ملكية نتيجة الاعتماد على الـمخابرات والجيش في إدارة شؤون البلاد والعباد، أم في بنية وثقافة وخيال وميراث الـمجتمعات العربية نفسها ما يسهم في ظهور حكّام كهؤلاء، وما يمكنهم من البقاء في سدة الحكم حتى الرمق الأخير؟ الواقع مزيج من هذا وذاك.ربما يكمن مفتاح السر في بنية وثقافة وخيال وميراث الـمجتمعات العربية نفسها. قادة الفصائل الفلسطينية، مثلاً، والكثير من قادة أحزاب الـمعارضة في العالـم العربي (وهم بلا جيوش ولا مخابرات) يحتفظون بالـمنصب مدى الحياة. ولا فرق بين يمين ويسار، وبين علـمانيين وأصوليين، وبين من يتكلـمون عن الديمقراطية ومن يعادونها.في وضع كهذا يمكن العثور على تجليات صافية وبديعة للكوميديا السوداء، وعلى مصدر لا ينضب تقريباً للتعامل مع الذكاء الإنساني بكثير من الحذر والتحفّظ. ومع ذلك تتجلى الـمأساة صافية، وإغريقية تماماً، عندما يضيع الفرق بين الحاكم والوطن، فيتماهى هذا بذاك، إلى حد يصبح معه بقاء الحاكم، حتى وإن جلب البلاء على البلاد والعباد، دليلاً على صمود وكرامة وربما انتصار الوطن، وإلى حد أن الكلام عن الحاكم بالسوء يصبح خيانة للوطن.الدكتوريوسف السعيديالعراق
https://telegram.me/buratha