بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين، إلى يوم الدين.
ولادته ونشأته
ولد سيدنا المترجم في جمادى الأولى عام 1329هـ في بيئة أبرز سماتها الورع والتقوى، تحت ظل والده العلامة الجليل السيد أحمد، حيث التقى والورع والعلم والزهد، فنبت في تلك الرياض النضرة نبتة صالحة، سار من خلالها في طريق المعارف الدينية، حتى أصبح ـ بعد حين ـ شجرة باسقة، (تؤتي أُكُلَها كل حين بإذن ربها).
كانت أسرته الخاصة التي نشأ في بيئتها تضم والده، ذلك الشيخ المتعب الكبير، المبتلى بأمراض عديدة، لكنه مع ذلك كان يسقيه من معارفه، ويفيض عليه من أخلاقه، ويغدق عليه بعطفه، كما تضم أخواله الثلاثة الأعلام، وهم: آية الله العلامة السيد محمود الحكيم ، وآية الله السيد هاشم الحكيم ، وأشهرهم وأبرزهم وأكثرهم صِلةً به هو آية الله العظمى السيد المحسن الحكيم (تغمده الله برحمته).
فكانت نشأته الأولى بين هؤلاء الأعلام، يستفيد من تجاربهم، ويستقي من علومهم، ويتلقى منهم ما يَستَحسِنونه من غذاء روحي له ولأقرانه، وهو مع ذلك ليس بعيداً عن أسرته (أسرة آل الحكيم)، «وهم سادة نجباء، تبدو عليهم سمات الصلاح والدين... وهم منتشرون في محلات النجف، خرج منهم بعض أهل العلم ورجال الدين، وفيهم اليوم علماء وفضلاء، حازوا الرتبة السامية و المنزلة الرفيعة، كثر الله في رجال العلم أمثالهم».
كما أن البيئة العامة التي نشأ فيها هي بيئة النجف الأشرف العلمية، التي كانت ومنذ مهبط الشيخ الطوسيH بها مركزاً علمياً وجامعة دينية، ينتجع بتربتها كثير من طلاب العلم، حتى بدت مفعمة بروّاد العلم وأرباب الفضيلة، ومهبط العلماء ومنار الفكر، بحيث قد لا تجد أسرة تسكنها إلا ولها نصيب من العلم أو الأدب والفضيلة. هذه هي بيئته وهذا بلده ومجتمعه، ومنها أصحابه وأقرانه وأصدقاؤه وأخلاّؤه، نشأ بينهم وارتوى وأينع معهم.
أبوه وأمهمن الطبيعي أن يكون للأب والأم الحظ الأوفر في بناء شخصية وليدهم وتعليمه وتربيته، ولم يكن سيدنا بعيداً عن ذلك، فقد كانت أمّه تلك المرأة الصالحة التقيّة بنت العالم الجليل المقدّس آية الله السيد مهدي الحكيم وأختُ الأعلام الثلاثة السيد محمود الحكيم والسيد محسن الحكيم والسيد هاشم الحكيم.
وأمّا أبوه فهو السيّد أحمد بن السيّد محسن الحكيم، «كان عالماً جليلاً ورعاً مقدّساً، ومن فضلاء الحوزة العلمية، ابتلي بعدة أمراض منعته من مواصلة دراسته، فكان يحث ولديه على طلب العلم والالتحاق بركب الحوزة»، كما أنه كان صبوراً متواضعاً كريمَ النفس، تخرَّج في الأبحاث العالية على يد آية الله الشيخ محمد المظفر، المتوفى سنة 1322، إلا أنه أصيب بأمراض عديدة تركته جليس الدار، حتى قضى نحبه وقد نيَّف على السبعين من عمره، وكانت وفاته في الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة سنة1350هجرية، ودفن في إحدى مقابر الصحن الحيدري الشريف.
دراسته العلمية
لم يكن سيدنا مختلفاً عن سائر أقرانه في الدخول إلى الكتاتيب (الملالي)، ليتعلّم هناك القراءة والكتابة حيث كان مألوفاً لدى الجميع، حيث يبتدئ الطفل بتعلّم الحروف الأبجدية، ثم قراءة القرآن الكريم، وهكذا يتدرج في معارفه وعلومه.لكن سيّدنا لم يدُم هناك أكثر من شهر، لعدم استفادته منهم، فانتقل إلى التعلّم في البيت، حيث أصبح المعلّم الأوّل له ـ وهو ابن ست سنين ـ ولشقيقه السيد محمد الذي يكبره بثلاث سنوات تقريباً، أبوهما الجليل السيد أحمد، فكان يُقْرِؤهما القرآن الكريم، مع تركيزه على القراءة الصحيحة، بل حتى المحسّنات فيها،كموارد الوقف والإدغام وغيرهما، وكان السيد الحكيمH ـ ولحسن خطه ـ يكتب لهما في لوح نحاسي يعرف باسم(المشق)، فيتعلّمان الكتابة والخط في دارهما أيضاً، بإشراف أبيهما (رضوان الله عليه).
وما أن أتمّ ختم القرآن الكريم ـ وهو بعد لم يتجاوز التاسعة من عمره ـ حتى ابتدأ بدراسة الكتب الحوزوية. فدرس عند خاله آية الله السيد هاشم الحكيم ـ مع شقيقه السيد محمد وابن خاله آية الله التقي السيد يوسف ـ الأجرومية وقطر الندى وشرح ابن الناظم على الألفية، ودرس عنده أيضاً القسم الأكبر من الباب الأول من مغني اللبيب، وكذا الباب الرابع منه، وإن كان خرج عنه في بعض الأقسام بالحضور عند حجة الإسلام والمسلمين السيد حسن السيد ماجد الحكيم.
وشارك السيد يوسف بدرس كتاب الحاشية لملا عبد الله في المنطق عند المرحوم السيد الحكيم، فيما كان السيد الحكيم آنذاك مشغولاً بتدريس المكاسب والكفاية والرسائل، وأتمّ الحاشية وتمام الشمسية عند آية الله الشيخ محمد تقي ابن الشيخ صالح آل الشيخ راضي، كما درس معالم الدين عند آية الله الشيخ محمد رضا المظفر. ثم إنه درس الكفاية عند مجموعة من أهل العلم، منهم آية الله السيد محمد البغدادي، والعلامة الجليل السيد محمد أمين الصافي.
أما الرسائل فكان أستاذه فيها والذي استفاد منه كثيراً هو المرحوم آية الله السيد ميرزا حسن البجنوردي، وكان سيدنا المترجم على علاقة وطيدة به، كما درس عنده قسماً من المنظومة للسبزواري، وحضر المكاسب عند آية الله الشيخ عبد الحسين الحلّي.
ثم إنه ابتدأ بحضور الخارج في الأصول عند آية الله العظمى الشيخ محمد حسين الأصفهاني في دورته الأخيرة، كما حضر درس المرحوم آية الله العظمى الشيخ أغا ضياء العراقي في الأصول، حيث حضر عنده قاعدتي الفراغ والتجاوز، إلا أن الدرس كان باللغة الفارسية وسيدنا غير متقن لها، فترك الدرس، كما أنه حضر البحث الخارج في الأصول عند آية الله الشيخ حسين الحلّي في دورته الأولى، حيث إن ابتداء الشيخ المذكور بالبحث الخارج كان على هيئة درس كتتميم لدرس الميرزا النائيني، وبعدها أصبح درساً عاماً، ومن ثَمّ كان درسه أشبه بالتعليق على تقريرات الميرزا النائيني.
أما الخارج في الفقه فلم يحضر إلا عند السيد الحكيم، حيث ابتدأ معه من بدايات مباحث شروط لباس المصلي، ثم إنه أعاد البحث من أول أبواب الفقه، فكان الحضور لسيدنا المترجم عنده تمام المستمسك.
كما حضر عند السيد الحكيم البحث الخارج على المكاسب، والذي كانت حصيلته فيما بعد كتابه المعروف بـ(نهج الفقاهة).ولم يقتصر سيدنا على ذلك، بل أخذ ـ ومن أجل حبّه للعلم ـ بدراسة الكتب الحديثة لشتى العلوم، زمالةً مع الشيخ محمد رضا المظفر، حيث درس الرياضيات ـ الحساب والهندسة والجبر وغيرها ـ والكيمياء والفيزياء والجغرافية والفلك وغيرها، فكان ولا زال له باع فيها واسع تُميِّـــزُه حتى على كثير من رواد هذه العلوم.
وكذلك ـ وبالرغم من كثرة مطالعاته للكتب العلمية الدينية بمختلف فنونها ـ كان كثير المطالعة لمختلف العلوم وأنواع الفنون، مستفيداً من ذلك سعة الأفق، ومكتسباً منها المعارف الجديدة التي تطرح في الساحة، بلا فرق في تناوله لما يقرؤه ـ إذا كان مناسباً لما تصبو إليه همّته ـ بين كتاب أو صحيفة أو مجلة، ومطّلعاً في الوقت ذاته على أكثر ما يدور من الأفكار في الساحة، محليةً كانت أو دوليةً، مع انتباه وحفظ لكل ما يجد فيه نفعاً وفائدة.
تدريسه
من المعروف في الحوزة العلمية أن الطالب حين يتم درسه للمادة وفهمه لها يكون معرّضاً ـ خصوصاً إذا كان من المشتغلين ومن ذوي البيان الجيد ـ لتدريسها إلى الطلاب المتأخرين عنه في المرحلة، فهو في الوقت الذي يكون فيه تلميذاً مستمعاً لأستاذه يكون أستاذاً يُنصَتُ إليه، ويستفاد منه في شرح مادة علمية، بلا فرق بين أن يكون ما يَدرسه ويُدرِّسه من علم واحد أو علوم مختلفة، بل ربما يوفق التلميذ بعدّة دروس أو عدّة حلقات لمادّة واحدة أو مواد مختلفة.
كما أن المألوف والمتعارف بين أبناء الحوزة العلمية أن الطالب حينما يكمل المادة التي يدرسها يبدأ بمباحثتها مع زميل له أو قرين، بأن يلقي الدرس عليه وكأنه أستاذه، ويكون الآخر طالباً مستمعاً، فإن وجد الطرف الآخر في المادة أو في شرحها وتوضيحها ما يثير إشكالاً أشكل عليها، وأوضح المطلب بالشكل الذي يرتضيه، وفي اليوم الآخر تتبدل الأدوار فالأستاذ في اليوم السابق تلميذ في اللاحق والتلميذ أستاذ، وهكذا يتدارسان المادة، حتى يأتوا على آخر الكتاب.
بل ربما يختار بعض المشتغلين من الطلبة طالباً أسبق منه مرحلة وأعلى درجة، بل قد تصل إلى أن يكون بمرتبة أستاذه، ليلقي عليه مادة الكتاب والآخر (الأكبر) مستمع ومنصت له، فإن أخفق أخذ بيده إلى الصواب، وإن أصاب أيّده وشدّ من أزره، وبالتالي يستفيد منه أكثر من حيث البيان، وفهم المادّة ونضوجها، بل قد يستفيد منه في الجانب التربوي أيضاً.كل هذه الأساليب التي ذكرتها تكون منشّطة للطالب أكثر فأكثر، حتى تصقل موهبته، وتنضج مداركه، وتتضح المعلومة التي أخذها من أستاذه بسبب مرورها عليه مرةً بعد أخرى، بصور مختلفة وأساليب متعددة.
وكان سيدنا المترجم قد مارس ـ في مراحله الدراسية ـ الأساليب المتقدمة الذكر، فكان كثير المباحثة، حيث قد تباحث كتاب الحاشية ـ كما يذكر هو (مد ظله) ـ مع شخص واحد تسع مرات، مما أثّر في هيمنته عليها، وأصبح يدرّسها ـ بعد ذلك ـ من دون حاجة إلى تحضير، ولا زال اليوم ـ وهو تجاوز عمره المائة عام (مدّ الله في عمره) ـ يحفظ جلّ متنها، ويستشهد بمطالبها، ويسأل عن معضلاتها.
وكذا الحال بالنسبة لشرح ابن الناظم على الألفية، فهو ـ بالرغم من صعوبتها وتشتت مطالبها ـ لازال يفسّر مبهماتها، ويسأل من يلتقي به من طلابها عن معضلاتها وخصوصياتها. ولم يقتصر على هاتين المادتين، بل تتعدى حافظته حتى إلى مطالب الكفاية والمكاسب والمستمسك، والتي أخذها طالباً ومرّ عليها مباحثاً ثم أستاذاً، ولست مبالغاً في ذلك، بل يعرف ما أقول كلُّ من له أدنى علاقة به.
ومن الطريف هو أنه قد زاره قبل أيام جمع من طلبة الجامعة وخرّيجيها و أساتذتها، فيتوجّه (دام ظلّه) بالنصح لهم، ثم يبدأ ـ ممازحاً لهم ـ بعرض مسألة في الحساب والهندسة، فاستطاع بعضهم حلّها، فوجّه إليهم مسألة ثانية وثالثة، حتى عجزوا عن الجواب، ووعده بع
https://telegram.me/buratha