بقلم علي بابان وزير التخطيط السابق عضو ائتلاف دولة القانون
الذي يتأمل في المشهد الإقتصادي الراهن في بلادنا لا يصعب عليه الإستنتاج بأن المجتمع العراقي ليس إلا صورة نموذجية من صور المجتمع الريعي الذي يعتاش على ثروة النفط التي يعاد ضخها في ذلك المجتمع بطريقة أو بأخرى و بصورة أساسية من الإنفاق الحكومي إما من خلال الرواتب و الحقوق التقاعدية التي تدفع لموظفي الدولة و العاملين بها و من خلال المشاريع الحكومية المتنوعة أو من خلال إلتزامات الدولة كالبطاقة التموينية و الخدمات شبه المجانية و غيرها ، هذا التشخيص لواقع الاقتصاد العراقي يدفعنا إلى التنبيه للواقع الصعب الذي تعيشه القطاعات الإنتاجية من صناعية و زراعية و خدمية كما يدفعنا للتحذير من خطورة إستمرار مثل هذا الوضع على مستقبل الإنسان العراقي . في ظل مجتمع ريعي إيا كانت صورته و شكله تتراجع المبادرات الإنتاجية و تتدهور الصناعة و الزراعة وسائر وسائل الإنتاج و يصاب المواطن بالخمول و التقاعس و يصبح همه الوحيد أن يحصل على أعلى الإمتيازات من الدولة حتى من غير بذل أي جهد ، و بأستمرار هذه الأوضاع تنمو حالة الإعتمادية و الإتكالية المطلقة على الدولة و تتصاعد المطالب الفئوية و العامة حتى تصبح الحكومة عاجزة عن تلبية بعضها أو جزئها و هكذا تنمو الفجوة بين الدولة و المجتمع و تتحول إلى حالة من الفصام الذي يقود بدوره إلى فقدان الإستقرار السياسي و الإجتماعي . و بسبب الإعتماد على مورد واحد يتعاظم إنكشاف الإقتصاد الذي يرتهن للخارج في كل مفردات حياته المعاشية فلقمة الغذاء و علبة الدواء و كذلك الكساء يأتي من الخارج لأن الصناعة تكون قد دفعت فاتورة المجتمع الريعي كما دفعتها الزراعة قبلها و تتعاظم المشاكل البيئية بفضل حالة الرخاوة و الإهمال التي تضرب الفرد و المجتمع ، و لأن أي مورد ريعي بطبيعته يكون موردا متناقصا أو متلاشيا كما أن أسعاره تتسم بالتذبذب فأن المجتمع الريعي طال الزمن أو قصر سيفتح عينه يوما ما على واقع يجد فيه نفسه عاجزا أو مفلسا لا يستطيع الحصول على الموارد التي تعود أن يجنيها و أن توفر له الحياة التي ألفها دونما بذل جهود إنتاجية . إنتاجية الفرد و المجتمع كان على الدوام في علم الإقتصاد و في ( علم الإجتماع كذلك) مؤشرا هاما على عافية المجتمع و قدرته على توفير الرخاء لإبنائه و على المنافسة و الريادة في ميادين الإقتصاد و التجارة الدولية ، و حتى في المجتمعات الغنية بمواردها الطبيعية نجد أن الأعين تصوب نحو مؤشرات الإنتاجية لأن أي إنحدار فيها يعني أن هذا المجتمع قد أصيب بمرض عضال يقتضي معالجته و عدم ترك إستفحاله . اليوم عندما نتأمل في وضع الاقتصادات العملاقة نجد أنها في سباقها و تنافسها تركز على إنتاجية أفرادها و مؤسساتها لكسب السباق لا بل أن بعض المجتمعات تحاول أن تعوض النقص في مواردها الطبيعية من خلال مضاعفة انتاجيتها لكي تكسب المنافسة. عندما نتأمل في تفاصيل الوضع العراقي نجد أن المجتمع الريعي فيه قد أفرز أمراضا و عللا عديدة فالمواطن بات يقيس حسن إداء الحكومة من خلال قدرتها على توفير البطاقة التموينية و كفاءتها في توفير الخدمات و رغم أن المواطن له عذره في ذلك تماما بسبب حالة المعاناة التي يعيشها إلا أن هذه الظواهر تسلط من جهة أخرى الضوء على أن المجتمع الريعي بدأ يفرز مشكلاته و يسلط ضغوطه التي لابد أن تؤثر على مسار القرار الإقتصادي الحكومي و بما يدفعه ليس إلى الوجهة الصحيحة دائما ، و غدا أو بعد الغد و عند أي تطور يحتمل حدوثه في سوق النفط العالمي و عندما تذبل اثداء النفط عن العطاء و تشح موارده ستكون الضغوط هائلة على الدولة و ستتفاقم معاناة المواطنين الذين لم تصنع منهم الدولة الريعية منتجين حقيقيين . لا يمكن لنا أن نلقي باللائمة على أي مواطن أو أية شريحة إجتماعية أو مهنية عندما تصعد مطالبها و تطالب بالمزيد ، و أسباب ذلك واضحة لدينا فالمواطن لا يطالب سوى بأبسط الحقوق التي باتت من ألف باء الحياة و من أولى واجبات الدولة ، كما أنه لا يجد أمامه دولة تحسن إستثمار الموارد و بناء المشاريع أو تقوم بمهامها بكفاءة و لذلك يجد أن من الأجدر بالدولة أن تقدم له الموارد بشكل مباشر بدلا من أن تبددها ولا تحسن إستثمارها لكن هذا ليس بالوضع السليم بتاتا و في آخر المطاف فأن المجتمع الريعي و التربية الريعية أن صح التعبير هي المسؤولة عن نشوء هذا الوضع المختل بكل تفصيلاته . إن علاج المأزق الإقتصادي و الخدماتي الراهن في العراق و الذي لابد أن يؤول إلى التأزم الإجتماعي و السياسي لا يمكن إلا من خلال التحول التدريجي المنظم و الممنهج من المجتمع الريعي إلى المجتمع الإنتاجي دونما هزات أو إرتدادات ، مثل هذا التحول بالطبع لا يمكن إنجازه بين يوم و ليلة لأن حقائق الحياة تعلمنا بأن عملية البناء و الإصلاح أكثر صعوبة و تعقيدا من عملية الهدم و إذا كان الاقتصاد و المجتمع يواجهان واقعا تهديميا استمر لعقود من الزمن فبالتأكيد أن الخروج من هذا الواقع لا يمكن أن يحصل سريعا . أن المجتمع الريعي هو منظومة متكاملة بقيمه و عاداته و اجهزته الحكومية المترهلة و بإنسانه الذي يميل إلى الحصول على الامتيازات دونما جهد و بنسب البطالة المرتفعة فيه و منظومات التشغيل غير المنتج ، و هذه المنظومة المتكاملة يجب تغييرها وصولا إلى المجتمع المنتج الذي تستخدم فيه كل عناصر الإنتاج و كوامنه و يدرك فيه المواطن أن لا رفاه ولا حياة إلا بالكدح و العمل و الذي تتغير فيه القيم الاجتماعية تغييرا جذريا ، مثل هذا المجتمع يقتضي جهدا مشتركا متواصلا من الدولة و المجتمع معا و تعاقدا جديدا بينهما و بما يؤدي إلى النهوض بالاقتصاد العراقي و صياغة واقعا مستحدث في بلادنا يعيد تصحيح العلاقة بين الحكومة و المجتمع كما يصحح الكثير من الأوضاع الاستثنائية و الشاذة التي ندفع تكلفتها الباهظة في واقعنا الراهن .علي بابان وزير التخطيط السابق و عضو في ائتلاف دولة القانون
https://telegram.me/buratha