عبد الكريم ابراهيم
التطور في نواحي الحياة المختلفة لايحدث بصورة مفاجئة ،لانه لابد له ان يستند الى قواعد ثابثة يمكن الانطلاق منها كي تكون بداية للاشياء ،ولعل الثقافة بمفهومها العام هي من اكثر المعاني الانسانية التي تحتاج الى التراكمية كي تصل في فترة ما الى النضج الفكري .تعدد مصادر الثقافة هو من اهم عوامل اثرائها ،لان الاحادية هي اسلوب دكتاتوري يوجه المتلقي في اتجاه نقطة معينة ، من خلال ضخ الافكار والطرق المستمرلها ،بالتالي تصبح لازمة مملة تفرض بالقوة على الاخرين ،ولم تترك للعقل فرصة للابحار بين الاتجاهات المختلفة واختيار المرفأ الذي يرسو فيه ،لان العقل البشري استدل بالمحسوسات للدلالة على الماديات ،خصوصا مفهوم التضاد كالليل والنهار ، الخير والشر ...الخ ، من خلال هذا الاستدلال البسيط توصل الانسان الى انه لايمكن معرفة الاول الا بالاخر فضلا عن الاتجاه الواحد الذي يقود الامور نحو السباة والظمور .الايديولوجيات المختلفة قد تحمل في طياتها عامل الصراع الفكري ،ولكن هذا الاخير هو الحجارة التي تحرك المياه الساكنة ،وينمي مبدأ الحوار الحضاري وان اختلف في الاطار العام ،ولكن تبقى قاعدة الاحترام وتقبل الرأي الاخر اهم ما يسود وينضج مثل هذه الحوارات التي تولد ثقافة معرفية تعكس رقي بلدان العالم .اخطر ما يواجه الثقافة العامة هو تحكم القوى السياسية الحاكمة بمصيرها وادلجتها في اتجاه يخدم مصلحتها الخاصة ،وهنا يظهر مبدأ ثقافة السلطة وثقافة الجماهير ؛لان محاولة عزل المثقف عن الشارع وشغله بامور ثانوية او يصبح صدى السلطة ، من الاساليب المعروفة عبر التاريخ .لذا عاشت الثقافة العراقية مراحل ازدهار وضمور تبعا لسياسة البلد ،وربما تكون في بداية القرن العشرين مرت باطار تصاعدي وصل الى درجة النضج والكمال في السبعينيات ،لان التراكمية قد اخذت طريقها الى العمل بشكل متدرج وثابت، زاد من هذه التراكمية مساحة الحرية الفكرية التي سادت في فترات معينة وانتجت ثقافة عراقية تتمثل بالكم الهائل من الادباء والعلماء والمثقفين والجامعيين ،هذا بدوره انعكس بشكل جلي على ثقافة عامة الشعب ،من خلال التصرفات واللياقة والذوق والاخلاق ،ولكن المشكلة الحقيقة ان هذا المستوى العالي بدأ يتراجع بعد ان خطا خطوات واسعة الى الامام ،ولعل عسكرة المجتمع العراقي والانزياح السلبي ولد قطيعة بين الماضي والحاضر ،وهذا يعني انقطاع السلسة التداولية وقد شخصها الشاعر العربي بقوله :متى يبلغ البنيان يوما تمامه اذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
مع هذا التكتم الثقافي الذي مورس فيما مضى ، فان الاديب العراقي الذي يمثل قمة النضج الفكري ،اصبح بمعزل عن الشارع والجماهير ،واصبحت النتاجات الادبية مقتصرة على مساحة ضيقة ( الفن للفن ). بعد التغيير عام 2003 سادت الضبابية المشهد العراقي ؛بسبب حالة الانفلات غير المدروسة المتولدة عن كبت سابق ،لذا تشظت الرؤى والافكار كالزجاج على مساحة واسعة من المتناقضات ، كلها تدعي احقيتها في فرض نفسها على الاخر ،ولعل الصراع السياسي هو الاخر ولد صراعا ثقافيا باطار سلبي ،بل جعل الثقافة تدور في رحى السياسية ،من خلال تبني بعض الادباء لمواقف معينة ، قادتهم في نهاية الامر الى حالة الصدامية مع اخوانهم السابقين .ربما قلنا ان الاختلاف هو مصدر اثراء للثقافة ،ولكن في حالة قبول الاخر وعدم تهميشه ،والحالة العراقية اليوم وبرغم كثرة الصحف والمجلات والفضائيات وتهافت البعض على كسب هذا او ذاك من الادباء ،فانها مازالت تعيش التشظي الذي يصعب لملمته في فسيفساء ملونة ،وزاد من تعقيد الامور عدم وضوح المشروع الثقافي العراقي سواء على مستوى المؤسسات الحكومية ام النقابية ، بل هي على حافة صراع في احقية من يقود الثقافة العراقية! هذا الصراع جعل الامورتتقهقر الى المربع الاول وهو البداية من الصفر !وعملية الصلح بين المثقفين والشارع تحتاج الى نوع من نكران الذات والانصهار في بودقة الجماهير مع الاعتزاز بالانتماء الشخصي الذي يجب ان يكون دافعا لتحقيق الافضل وليس العزل .
https://telegram.me/buratha