أ. د. حاتم جبار الربيعي*
تحت ظل الظروف الصعبة التي عاشها العراقيون بعد الإحتلال الأمريكي وحلفائه للعراق عام 2003 تطلع الكثير منهم إلى قيادة حكيمة للتقليل من آثار الهيمنة الأجنبية وإيجاد مخرج من تلك الأوضاع القاسية، وخلال تلك الفترة المهمة ظهر دور للمرجعية الدينية في النجف، وبرزت شخصية آية الله العظمى السيد علي السيستاني كأهم مرجع ديني. إذ إنه لايتصرف في الشؤون الاجتماعية المتعلقة بمصادر الأمة وأعراضها وأموالها وممتلكاتها وسيادتها كأي سياسي أو قيادي في الساحة العراقية بل يتصرف باعتباره الأب الروحي لكل العراقيين الذين يبحثون عن أهداف الحرية والأمن والأستقرار. كما أوضح سماحته هذا التوجه في كثير من الأحيان ومثلا بالقول لوفد مؤسسة الإمام الشافعي عند زيارتهم لمكتبه في مدينة النجف: أنتم لستم يدي بل انا يدكم وان هذا المنهج الوحدوي الذي تنطلقون به الآن هو الذي نؤمن به من اليوم الأول.
كان السيد علي السيستاني من أبرز تلامذة السيد الخوئي نبوغا وعلما وفضلا وأهلية، ولد في ربيع الأول من عام 1349 للهجرة المصادف آب (أغسطس) سنة 1930 ميلادية في مدينة مشهد الأيرانية في أسرة علمية دينية ملتزمة، وقد درس العلوم الابتدائية والمقدمات والسطوح وأعقبه بدراسة العلوم العقلية والمعارف الإلهية لدى جملة من أعلامها ومدرسيها حتى أتقنها. وحضر دروس بحث الخارج في مدينة مشهد المقدسة واستفاد من فكر العلامة المحقق الميرزا مهدي الأصفهاني ، ثم انتقل إلى الحوزة العلمية الدينية في مدينة قم على عهد المرجع الكبير السيد حسين البروجردي في عام 1368 هجري(1949 ميلادي)، وحضر بحوث علماء وفضلاء الحوزة آنذاك منهم السيد البروجردي والسيد الحجة الكوهكمري .ثم غادر إلى مصدر العلم والفضل للحوزات العلمية في النجف الأشرف عام 1371 هجري (1952 ميلادي)، وحضر دروس العلماء من أمثال السيد الحكيم والشيخ حسين الحلي والإمام الخوئي فقها وأصولا لأكثر من عشر سنوات، كما لازم بحث الشيخ الحلي دورة أصولية كاملة.
حصل عام 1380 هجري (1961ميلادي) على درجة الأجتهاد في شهادتين موضحتين بالثناء الكبير على فضله وعلمه، إذ حازعلى هذه المرتبة الأجتهادية العالية بشهادة العلماء وهو في الحادية والثلاثين من عمره. عمل السيد السيستاني كأستاذ بالبحث والتدريس في الحوزة العلمية في النجف منذ عام 1381 هجري (1962 ميلادي). ويذكر أحد تلامذته الذين عاشوا معه لفترة طويلة بأنه يحترم الرأي، ويتبع الأدب في الحوار، ويعتبر التدريس كرسالة سماوية لابد من مزاولتها بروح المحبة، والعناية التامة بمسيرة الطالب العلمية والعملية، وأنه ورع ومتواضع.
ومنذ اليوم الأول لسقوط النظام السابق ودخول القوات الأمريكية وحلفائها البلاد في نيسان ( أبريل) عام 2003 والسيد السيستاني يستأنس السياسيون بآرائه وهو يدير الأمور التي يلجأون اليه بها بعقلية وحكمة ودراية وواقعية كبيرة، ولوكان يفتقد هذا الهدوء لغرقت البلاد في محيط من الفتن والحروب والمواجهات العرقية والقومية والطائفية. كان لابد من ممارسة سياسية وفتوى شرعية هادئة عاقلة فيها من الاتزان والواقعية والعقلانية، ما يقود المرجعية إلى موقعها الحقيقي في حركة الأمة ومايقود الأمة إلى دورها في سياق التحول الإجتماعي والسياسي المنشود.
كان المرجع السيد السيستاني يشعر أن المعركة من أجل الإستقلال بحاجة إلى عقلية عليا ومرجعية سياسية ودينية متظافرة، وجهود كل الأطياف والقوى والاتجاهات السياسية والإجتماعية في البلاد، وإستخدام الأساليب المتحضرة والديمقراطية والمدنية سبيلا لتجنيب العراق المزيد من الدماء وإزهاق أرواح الأبرياء. هذا التوجه يواجه بالأستنكار والأستهجان من قبل أولئك الذين يريدون المزيد من سفك دماء العراقيين لكي يحولوا البلد إلى ساحة واسعة ومفتوحة وغير مقيدة بقانون لتصفية الحسابات وقتل الخصوم وإرباك القانون والنظام وذبح الناس وإدخال العراق في فوضى، إذ ان بعض الأطراف من خارج وداخل العراق لاتريد للعراق أن يستقر لأن استقراره لا يصب في مشروع الطائفية التي يريدونها لتجتث كل عناصر الأخاء والتعايش والأنسجام المذهبي الديني والتأريخي الذي طبع مشهد العراق منذ بداية تشكل البلاد بحدودها الجغرافية والسياسية والأجتماعية والدينية.
فكانت مجمل فتاويه تحرم قتل النفس البريئة وتمنع التعامل مع الإحتلال والأحتكاك به حتى انه رفض مقابلة الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر وغيره من السياسيين الأمريكين، وتذكير قياداته وجنوده وضباطه بأنهم محتلون في كل لحظة. ومن جهة أخرى مقرون بالعمل مع القوى السياسية العراقية سواء في مجلس الحكم أو خارجه لتسهيل شؤون أبناء الشعب العراقي الإدارية والقانونية والإقتصادية والإجتماعية وتمكينهم من مهمتهم الوطنية وعدم وضع العقبات والعراقيل في طريق نجاح تللك المهمة.
وفي مطلع عام 2004 وجهت إلى مجلس جامعة بغداد دعوة للالتقاء بهذه الشخصية الجليلة التي كانت تحتل المرتبة الأولى بالأهمية فقد كان لهذا العالم دور أساسي بإشاعة السلم بين المواطنين العراقيين بعد إن حاولت عدة جهات أثارة النعرة الطائفية وأخذت تقتل المواطن إعتمادا على الهوية وبناء على اسمه ولقبه وانتمائه المذهبي، وأن أكثر مافعله هو دعوة الشيعة إلى ضبط النفس حتى وصل الأمر إلا إن بعض المواطنين توجهوا لمقابلة السيد السيستاني وأبدو حزنهم بأن بعض قوافل تشييع الموتى في طريقهم لدفنها في النجف الأشرف يتم الأجهاض عليها من قبل مسلحين، وطالبوا في حينها بإعطائهم فتوى شرعية بالهجوم على المدن التي تأوي المسلحين، فقال لهم وبشكل واضح:
لوكان لي 100 ولد وتم قتل 99 منهم بهذه الطريقة فسوف لا أوصي الأبن الأخير بقتل الآخرين وبشكل عشوائي وأوصاهم بالتمسك بالآيات الكريمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ،( النساء 93).
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ( الأسراء 33).
وتحت أجواء الرغبة بمقابلة السيد السيستاني ولتلبية دعوته الكريمة، توجه أعضاء مجلس جامعة بغداد إلى مدينة النجف الأشرف في صباح أحد ايام مطلع عام 2004 برئاسة الأستاذ الدكتور موسى الموسوي رئيس الجامعة ومساعد رئيس الجامعة (كاتب المقال) ومعظم عمداء الكليات. ووصلنا إلى المنطقة القديمة "وكما تسمى إداريا" حيث تقع محلة تراثية تسمى بالبراق حيث يسكن السيد السيستاني منذ مجيئة إلى النجف عام 1952 ميلادي في بيت قديم وبسيط، المار بها يظن نفسه يسير في الخمسينيات من القرن الماضي لما يرى من بناء قديم وشوارع ضيقة تتسع لحوالي شخصين وهي قريبة من مرقد الأمام علي عليه السلام ومقبرة النجف. وبعد أكمال بعض الإجراءات الأمنية وإبلاغنا بعدم أجراء التصوير، دخلنا مباشرة إلى الصالة حيث وجدنا سماحته يجلس على الأرض المفروشة بسجاد بسيط وقديم. وبعد دخولنا نهض ليستقبلنا ويحتضن الجميع بمودة وبشاشة.
وقد لاحظت تعجب الجميع كيف أن هذه الشخصية التي يتحدث الكثيرون عن دورها الديني والسلمي في كافة أنحاء العالم تعيش عيشة بسيطة وبحياة الكفاف والبساطة والتواضع بينما يعيش غيره من وعاظ السلاطين عيشة الأثرياء والمترفين سواء في مسكن أو في ملبس أو في مأكل أو في مشرب، فقد سمعنا من تلامذته والمقربين اليه بأنه يصر على أن يعيش كما يعيش أبسط الناس بل يعيش كأضعف الناس لكي يكون قدوة حسنة حتى يحس بألم المحرومين، فكان هذا السيد يقدم المعونات والمساعدات لفقراء ومستضعفي العالم وينفق على إنشاء المؤسسات العلمية والدينية والخيرية بينما يعيش عيشة الكفاف.
رحب بنا ودعانا للجلوس فجلسنا معه على الأرض ليبدأ السيد رئيس الجامعة كلمة شكر على تلك الدعوة ويقوم بالتعريف بأعضاء الوفد، فطلب السيد السيستاني الإستماع الى ملاحظات ومقترحات الحاضرين، وبعد الإنتهاء من ذلك كله، بدأ السيد السيستاني حديثه بهدوء وحسب ماأتذكر حيث ثمن الدور الكبير والرسالة التي نقوم بها في المجتمع وأنه يقع على عاتق التدريسي تنشئة جيل جديد يحمل الأخلاق والعلم، وإن الله سبحانه وتعالى أوصى بالعلم والعلماء وان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال بأن: (مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء).
وأكد على أن رسالة التعليم هي الأعظم في المجتمع، ثم تطرق إلى ضرورة اخراج المحتل بتكاتف الجميع وعدم إتاحة الفرصة له لتفريق أبناء الشعب وضرورة اللجوء إلى الأنتخابات التي تحصن الجميع من الدخول في فتنة، فالمحتل وحسب توضيحه يحاول دائما أن يحرك طرفا ضد الطرف الآخر من خلال الحديث عن المواقع التي يشغلها، فاذا كان حجم الموقع قليل يقول له: لقد أخذ الطرف الآخر حصتك ويحاول أن يفهم الطرف الثاني أن حجمه أكبر ومن المفترض أن يحصل على موقعه بشكل افضل وهكذا تتولد الفتنة، وأوضح أهمية نبذ الشعور الطائفي بين السنة والشيعة بالقول: إذ ان على الشيعة أن لايقولوا أخواننا السنة بل يقولوا هم أنفسنا.
كما أوصى بضرورة أفهام الطلبة بأن وقت بقاء المحتل لابد أن يكون محدودا وأن نضرب لهم أمثله و لأولادنا وبناتنا ونوصيهم بذكر ذلك لزملائهم، مثل ثورة الجزائر ضد الفرنسيين وصمود الشعب الفيتنامي ضد الأمريكان وغيرها من الأمثلة التي تزرع الثقة في نفوس الأبناء والطلبة.
وبعد حوالي ساعتين من بدء اللقاء ودعنا السيد بمعانقة الحاضرين، وحاولنا تقبيل يده فرفض وقال: لابد أن تقبل أيديكم لأنكم العلماء وأن رسالتكم التربوية والعلمية أهم من غيرها. وأثناء عودتنا إلى بغداد سمعت من أعضاء الوفد بأن من يلتقى بالسيد السيستاني يرى فيه شخصية فذة يتمتع بالخصائص الروحية والمثالية التي حث عليها أهل البيت عليهم السلام والتي تجعل منه ومن أمثاله من العلماء المخلصين مظهرا جليلا لكلمة عالم رباني.
بعد خروجنا من زيارته ومقارنة ماسمعناه مع الوضع العراقي الذي نعيشه تيقنا بأن المرجعية الدينية والسيد السيستاني خاصة يتعامل مع الواقع السياسي الراهن في العراق بفطنة وحنكة وواقعية، ومثلا حين طالب في بداية دخول الإحتلال بأن يكتب الدستور بأيدي عراقية وأهمية اختيار لجنة عراقية منتخبة لكتابته، وبإجراء انتخابات شعبية حقيقية على اساس البطاقة التموينية السابقة، فهو لم يطالب بأنصاف طائفة والأنتصار لها وعلى حساب حق الطوائف والأتجاهات الأخرى قدر ماكان ولايزال يطالب بضرورة تأكيد رغبة الشعب العراقي كله في ممارسة حقه الدستوري والأنتخابي، وأن يؤخذ رأيه في كل المشاكل والقضايا المصيرية وفي المقدمة منها حقه في تشكيل مجلس صياغة دستوره، أن السيد السيستاني طالب بإجراء الأنتخابات كون المسألة الدستورية جوهرية في حياة أية أمة وفي أي تحول استراتيجي ونوعي من الأستبداد والقمع ودولة الشخص الواحد إلى التعددية والديمقراطية والعدالة الأجتماعية، وهنا يتألق سماحة المرجع في ساحة العمل السياسي الوطني كفقيه وقيادة ابوية تشترط لنقل السلطة وكتابة الدستور واستعادة الدولة الكرامة من خلال أنتخابات حرة ومستقلة يساهم في أقامتها كل ابناء الشعب العراقي من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه.
ولكن تبقى مسؤولية الجميع وفي المقدمة منهم السياسيون بالإصغاء إلى نصائح المرجعية الدينية الرشيدة وآراء العلماء المخلصين وإستثمار تلك الأنتخابات في إدارة الدولة العراقية بالشكل الصحيح. ومن المؤسف أن هذا لم يتحقق للآن رغم مرور بضع سنوات "لأن هنالك من يحاول أن يبني بينما يحاول البعض الآخر الهدم" وأصبح حالنا كلاعبي جر الحبل فكل طرف يرغب بجر الحبل إلى جهته.
ونعتقد بأن حل هذه العقبات يمكن تجاوزها بإعتمادنا على الله و بإتفاقنا على دستور يضمن وجود حكومة قوية وحازمة وعادلة تتمتع بصلاحيات واسعة توحد من خلالها العراقيين للسير بهم إلى الأمام، والتقليل من آثار الحرية الجديدة المطلقة التي لم نجني منها سوى الفوضى.
*مساعد رئيس جامعة بغداد السابق (منتخب)
https://telegram.me/buratha