حسن الهاشمي
روي عن الإمام الصادق (ع) عندما كتب له المنصور العباسي لم لا تغشانا كما يغشانا الناس؟! فقال (ع): ليس لنا ما نخاف من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له .. ثم قال: من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك. (البحار-ج47ص184).الإنسان الذي صلحت سريرته وقويت صلاته فيما بينه وبين ربه أو فيما بينه وبين الناس وأدى ما عليه من حقوق وواجبات، والإنسان الذي كبر الخالق في عينه وصغر ما دونه أمامه، لا يهاب من شيء ولا يخشى سوى الله تعالى، والدنيا حينئذ تكون عنده مزرعة يزرع فيها الخير ليحصد غيره من حسان فعله وجميل إحسانه، وفي الوقت نفسه تكون الدنيا عنده قنطرة يتخطى من خلالها الخطايا والموبقات والذنوب ليعبر إلى شاطئ الأمان والخلود، ومن تكون هذه صفاته وخصاله لا يأبه من شيء ولا يخاف دركا ولا يغشى أمرا من أمور الدنيا الفانية، لأنه يذعن إن كل شيء ما خلا الله تعالى باطل. وطالما يرجو المؤمن رحمة ربه فقط ويعلم إن الله تعالى هو من بيده أزمة الأمور والخلق والمصير وما سواه محتاج لا يمكن الركون إليه أبدا، فلا مفزع ولا مهرب ولا ملجأ حقيقى سوى الله تعالى، كيف لا والملوك والسلاطين والأقوياء والتجار ومن بيدهم سلطات دنيوية ومن عندهم وجاهات اجتماعية كلهم محتاجون إلى رحمة ولطف الله تعالى، ولو انقطع اللطف عنهم لحظة واحدة لأصبح السلطان والصولجان والتيجان والحلل والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة في خبر كان، لا تنفع صاحبها ولا تجيره من عذاب واصل أعده الله تعالى للظالمين وأعوانهم، في حين أعد للمتقين جنات ونهر هنيئا لهم وهم يتنعمون عند مليك مقتدر.ولا نزال نرمق جوقة المهرجين والمتملقين والمتزلفين يحومون حول الطغاة والفاسدين كما تتجول جوقات الذباب بين أكوام القمامة، أصحاب النفوس المريضة من الكتاب والصحفيين والمثقفين والأدباء ورؤساء القبائل الذين يتملقون للطاغية لعلهم ينالون الجائزة ولو كانت على حساب الحق ولو كانت على حساب الضمير والوجدان والدين، لا أحد منهم يتجرأ على نصيحة الطاغية، فتراه يتجبر ويتكبر على حساب استضعاف الآخرين وغمط حقوقهم وسحق كراماتهم، وهذا ما حذر الإمام الصادق من الوقوع في شراكه.من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك... عبارة بلاغية مليئة بالحكمة والموعظة الحسنة، فالحاكم الظلم ولكثرة ما يرى من المصفقين والمؤيدين لا يجرأ أحد على نصيحته، بل إن المنتفعين يعتبرون كل أفعال وأقوال الحاكم المستبد صحيحة، بل يتعدى ذلك البعض ويعتبر إن القائد لا يخطأ ولو خطأ فإنه الصواب بعينه، هذه الحقيقة المرة حذر عنها الإمام وصنف الناس تبعا للتعامل معها إلى قسمين: الأول: من يلهث وراء حطام الدنيا وينساق وراء ترهات الظلمة معطيا عقله إجازة مفتوحة دونما نقد لظاهرة حتى لو كانت في نظر العقلاء سيئة، يعمل كل ذلك من أجل منفعة شخصية ويتحمل إزاءها الذل والهوان التعس ويدوس على ضميره ودينه ووجدانه.الثاني: من يريد الحق والرشاد فإنه يقول الحق ولا يخاف في ذلك لومة لائم، ومثل هذا الشخص لا يصحب الطغاة لأنه يعلم إن في صحبته تلك ضياع للحقوق وغمط للمعاني الإنسانية النبيلة، ولو حتمت الدواهي لمواجهة أحدهم فإنه لا يبخل من تقديم النصح واشهار الحق ولو كلفه ذلك حياته. أنا استغرب ممن يدعي الثقافة في عالمنا العربي بالخصوص وهو بوق للحاكم المستبد يتستر عليه ويبرر له تصرفاته بل يكيل المدح والثناء والتبجيل والتقدير لصاحب الجلالة وفخامة الرئيس لا لمؤهلاته بطبيعة الحال وإنما للموقع الرسمي الذي يتسنمه، لأن المثقف في قرارة نفسه يعلم قبل غيره إن هذا المديح ليس بإزاء استحقاق ثقافي أو ابتكاري أو فكري وإنما لاستدرار الهدية ولقمة العيش الرغيد وإن جاءت على حساب الضمير والدين والواقع، وهذه الحالة ليست وليدة اليوم إنما هي قديمة جديدة ترى جوقة المتزلفين والمداحين من الشعراء والأدباء يتغنون بالقائد الفذ والأسطورة التي لم يلد الزمان بمثله ومن أمثال هذه الترهات التي يعلم الشاعر والمثقف قبل غيره إنها مبالغ فيها ليس لها حظ ولا نصيب على أرض الواقع. ولكنها الجائزة تفعل فعلتها وتجعل من الوضيع شريفا ومن الشريف وضيعا، بيد أنها في المقابل تبقى لعبة قذرة لا تنطلي على أصحاب الألباب ولا ترى مكانا محمودا في أسطر التاريخ المشرف، فقط وفقط السذج من الناس ومن همهم علفهم هم الذين تنطلي عليهم نعوت المتزلفين لاسيما التي تصف مسؤولا بأمور هو أبعد الناس عنها، وهذا الإرتكاس والانتكاس الثقافي يؤشر على حالة مرضية مستفحلة مع بالغ الأسف في المجتمعات العربية حيث يعشعش فيها ألقاب أمير المؤمنين والقائد الضرورة وصاحب الجلالة المفدى وما شاكلها لسلاطين ورؤساء وملوك وأمراء هم في الأعم الأغلب أبعد الناس عن الإمارة والقيادة والجلالة لضحالة الفكر الذي يحملون ووضاعة النسب الذي ينحدرون وبشاعة الظلم الذي يرتكبون. نحن اليوم بحاجة إلى صرخة الأئمة عليهم السلام بوجه الطغيان الأموي والعباسي وما على إثره وهو ما نراه في الاستبداد المستأصل في الكثير من دولنا الإسلامية، نعم نحن بحاجة إلى حكمة الإسلام المحمدي الأصيل المتمثل بالكتاب والعترة لإسداء النصيحة وتصحيح المسيرة ومصاحبة البررة من أهل البرية، لنكون على السكة الصحيحة والموصلة دائما وأبدا إلى سبيل النجاة.
https://telegram.me/buratha