المقالات

أرامل صدام في جنازة القومية العربية

1886 23:40:00 2007-01-03

( بقلم : نبيل شرف الدين )

على مدى أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، ظل من يطلقون على أنفسهم "القوميين العرب"، يطبلون لنظام صدام حسين، ويدبجون القصائد في "حكمة القائد"، دون أن يكلف أي منهم نفسه عناء التوقف أمام ما كان يشهده أبناء العراق من مآس ومذابح، وعمداً تجاهلت صحف الأنظمة العربية مظالم الشيعة والأكراد وغيرهما من طوائف العراق التي تشكل روافد بالغة الأهمية في نسيجه، فالشيعة مثلاً يشكلون غالبية الشعب العراقي، والأكراد يتمتعون بكل مقومات الأمة المستقلة، من خصوصية اللغة والعادات والجغرافيا والتاريخ، ولو شاءوا الاستقلال فلا جناح عليهم، لأنهم يملكون مبررات لا تقل في تمايزها عن الشيشان مثلاً، التي صدعنا البعض بحق أهلها في الانفصال عن الاتحاد الروسي، لكن قاتل الله المكابرة والتبجح الذي يتمتع به "القومجية"، إذ أنهم يكيلون بألف مكيال، ثم يتهمون الآخرين بازدواجية المعايير دون خجل والمعلوم أن الفكر القومي لم يهزم يوم سقوط نظام صدام، ولا يوم القبض عليه في "الحفرة إياها" ولا يوم القصاص العادل منه، بل سقط منذ حزيران عام 1967، حين تمكنت دويلة إسرائيل التي لم يكن عمرها حينذاك يتجاوز بضعة عقود من إلحاق الهزيمة النكراء بكبرى الدول العربية، ومن ساعتها أخذت تجربة القومية العربية تتدهور على نحو حاد، والسبب ببساطة هو أن أنظمة الحكم التي امتطت حصان العروبة، فعلت بالشعوب ما لم يفعله الاستعمار الكولونيالي، وقضت على النخب السياسية والثقافية قضاء مبرماً، وحولت تلك النخب إلى عازفين في أوركسترا النفاق والمغالطة والتبرير، فشوهوا التاريخ، وعمدوا إلى "عسكرة المجتمع"، ففي مصر مثلاً ابتكر نظام عبد الناصر ما يسمى "المدارس العسكرية"، ونصّب عسكريين سابقين رؤساء للشركات والهيئات وحتى الأحياء والبلديات هذا ناهيك عن الوزارات المتعاقبة، التي ظل العسكر يحظون بنصيب الأسد فيها، حتى الهيئات الخيرية تعاقب على رئاستها العسكر، وبالتالي جرى تفكيك المجتمع المدني، وانتقل ثقل المجتمع المصري من الأحزاب والجامعات إلى "ثقافة القشلاق" ـ المعسكر ـ حيث تسود روح الطاعة العمياء، ويتلاشى النقد والمحاسبة، مادام المسؤول من "أهل الثقة"، وكان طبيعياً أن ينهار هكذا مجتمع حتى قبل أن تطلق إسرائيل رصاصة واحدة، على النحو المعروف الذي لم يزل "القومجية" يبررونه، ويعلقون خطايا قادتهم المستبدين على شماعة المؤامرات الخارجية. ....... يقيم مصريون وفلسطينيون وغيرهم مآتم هذه الأيام كمداً على أيقونتهم "المدنسة" صدام حسين، وهم بهذا يزايدون على شعب العراق أو لنقل غالبيته، إذ أن كل العراقيين، باستثناء ثلة من المستفيدين والانتهازيين سعدوا بالقصاص العادل، الذي شاءت الأقدار أن يكون من نفس جنس العمل، وراح "أرامل صدام" يرطنون بعبارات أقل ما توصف به أنها سخيفة ومقززة، فيتحدثون عن "محاكمة غير عادلة" جرت لنبيهم الدجال، وكأنه كان يحرص على محاكمة خصومه ومعارضيه قبل أن يقتل بعضهم بمسدسه الشخصي، ويبيد قرى وعائلات كاملة، ويشن غارات جوية بالأسلحة الكيماوية على طائفة من أبناء شعبه، الذين يبخل عليهم بثروات بلادهم، بينما يشتري بها ذمم الأفاقين والمنافقين وباعة النفايات الفكرية، من نخب "القومجية" العرب الذين أدمنوا رحلات الصيف والشتاء إلى بغداد، للمشاركة في "مهرجانات الردح"، حيث يتبارون في الإشادة بعبقرية "الزعيم الملهم"، لأنهم يدركون جيداً أنها "مزايدة رخيصة"، سيربحها الأعلى صوتاً، ومن يذهب إلى آخر مدى ممكن في الكذب، حتى ينتبه إليه "أزلام صدام"، فتتضاعف المكرمة الرئاسية، التي بلغت حداً غير مسبوق من التبجح، حين منح صدام سيارات "مرسيدس" فاخرة، لرؤساء تحرير الصحف الحكومية في مصر، ولما شاعت القصة وانكشفت الفضيحة، اضطر الرئيس المصري إلى إصدار أمره بوضعها ضمن ممتلكات المؤسسات الصحافية، وكان حريّاً به أن يسحبها منهم ويعاقبهم بالطرد والمحاكمة ولم تتوقف فرق الانكشارية "القومجية" عند حدود الارتزاق من نظام صدام حسين، بل اتسعت رقعة التربح من كل نظام عربي فاشي، كالنظام الليبي مثلاً، والذي يمكنني أن أتفهم دوافع إعلانه الحداد على اقتصاص الشعب العراقي من الطاغية الذي سامهم كافة صنوف العذاب والإهانة والمظالم التي لا حصر لها، وذلك لأن الطغيان ـ كالكفر ـ ملة واحدة، ولعل عقيد ليبيا كان يتحسس رقبته وهو يشاهد حبل المشنقة يلتف حول عنق رفيقه، وهو بالتأكيد لم يكن الحاكم العربي الوحيد الذي يتابع المشهد التاريخي، لواحد من "رفاق الطغيان"، فهناك طغاة آخرون تحسسوا رقابهم، وبلغتهم الرسالة العراقية، وهنا نبشرهم بأن العراق أصبح بالفعل "منصة" لإطلاق الحريات في المنطقة، ولن تكون هذه آخر الرسائل الموجعة لأنظمة الاستبداد في المنطقة، وأن محاولات تلك الأنظمة لإلهاء الشعوب و"هندسة أدمغتها"، ضد مصالحها بمزاعم فارغة عن دور إيراني واحتلال أميركي ومطامع إسرائيلية، وغيرها من كلمات الحق التي يراد بها عين الباطل، فالزعم بأن إيران تهيمن على العراق هو إهانة لملايين العراقيين القادرين على تدبر شؤونهم دون وصاية من أحد، أما الحديث الممجوج عن الاحتلال الأميركي، فأبشرهم أنه في القريب سيحمل عصاه ويرحل، متى طلب منه العراقيون ذلك، لكن هؤلاء الأعراب يريدون خراب العراق، لأنهم يبثون عبر وسائل إعلامهم وعلى ألسنة أبواقهم أنه ينبغي على قوات التحالف أن ترحل الآن فوراً، وهم يدركون جيداً أن بلداً كبيراً كالعراق، ظل يعاني قمعاً لا حدود له على مدى نحو أربعة عقود، سيقع في فخ الحرب الأهلية والاقتتال الطائفي لو رحلت قوات التحالف الآن، فالأعراب يريدون نشوب تلك الحرب، حتى يجلسوا على مقاعدهم ويتشدقون بشماتة عن نصائحهم الثمينة التي قدموها للجميع بعدم الاقتراب من مستنقع الشرق الأوسط، لأنهم ـ أي الحكام الطغاة ـ أدرى بشعابه، ويعرفون جيداً كيف يحكمون شعوبه ويسوسونها. ....... يتحدث كثيرون من الساسة العرب وأذنابهم من جوقة المستفيدين، عن الدكتاتور صدام وكأنه "بطل سني أعدمه شيعة جبناء خونة"، وهم يدركون جيداً أن صدام لم يكن سنياً ولا شيعياً، ولا يكترث بأي دين، اللهم إلا بما يكرس استمراره على عرشه، فاستخدم الدين مطية كلما حاصرته الهزائم، ولم يحمل المصحف إلا بعد أن كبلته الأغلال وصار قاب قوسين من مزبلة التاريخ. وكعادتهم يخطئ الأعراب في حساباتهم السياسية، حين ينفخون في نيران المذهبية، ويتحدثون ليل نهار عن تمدد النفوذ الشيعي الإيراني، وتنطلق آلة الإعلام التي تهيمن عليها أنظمة القمع، لتجييش المشاعر المناوئة لمعتنقي المذهب الشيعي، وهم يتغافلون عن أن اشتعال هذا الملف يهدد بتفجير الأوضاع في عدة بلدان عربية، يشكل فيها الشيعة نسبة لا يستهان بها، وبدلاً من ترسيخ قيمة المواطنة دون الالتفات للدين أو المذهب أو العرق أو الجنس، تتحول هذه الأنظمة الاستبدادية إلى طرف في خصومة تاريخية، قد تفجر مجتمعات برمتها، وتدفع به إلى مواجهات دامية. وفي سياق التبرير واللعب بالنار، يتجاهل المستبدون وأبواقهم جرائم صدام حين قتل واغتال المئات من أبناء الطائفة السنية، بل ومن أبناء عشيرته وأقاربه، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، وزير الدفاع الأسبق عدنان خير الله وهو ابن خال صدام، وبنو عمه حسين وصدام كامل، إبان واقعة الهروب الشهيرة، ناهيك عن الرئيس الراحل أحمد حسن البكر، ووزير الصحة رياض رشيد، ورئيسي ديوان الرئاسة طارق حمد العبد الله، وخالد عبد المنعم رشيد، والدكتور راجي التكريتي، وعشرات العسكريين منهم ثابت سلطان التكريتي، وكامل الجنابي وغيرهم، يتجاهل الأعراب كل هؤلاء ويختزلون أهل السنة في شخص الدكتاتور، الذي لم يكن يوماً سوى طاغية يتلذذ بالدم. وبدلاً من تجييش مشاعر العوام والدهماء ضد توابع زلزال العراق، وبدلاً من مراجعة النفس وتعلم الدرس، راحت عواصم عربية تتحدث عن نفوذ إيراني، بينما ليس هناك سفراء لهذه البلدان في العراق، وكادوا يختزلون اهتمامهم بالعراق في "حصة الاستثمار"، ولو كنت عراقياً لما منحت عربياً واحداً تأشيرة دخول للعراق، ناهيك عن عقود الإعمار الهائلة التي منحت بالفعل لعشرات الشركات العربية، فحين يضع هؤلاء الأعراب أنفسهم في خندق مضاد لمشاعر القطاع الأكبر من أبناء العراق فيفرحون لما يحل بهم من كوارث وتفجيرات، لا لشئ إلا الشماتة بأميركا، التي لا يجرؤ حاكم عربي على رفض طلب لها، كما يتباكى هؤلاء الأعراب على ما يسعد العراقيين، كالقصاص من طاغية تلطخت يداه بدماء عشرات الآلاف من أبناء شعبه، وقمع الملايين منهم، وأهدر ثروات الدولة في مغامرات عسكرية لا طائل منها، واستعدى على بلاده العالم كله، وعرّض شعبه لحصار لم ينل منه هو وأسرته ورفاقه، بل تربحوا منه بالمتاجرة بأقوات الناس كان ينبغي على الأعراب أن يمدوا يد المساعدة للعراق، ليساهموا في إرساء الأمن والاستقرار، بدلاً من فتح حدود بلدانهم معابر للإرهابيين، وهؤلاء ليسو بالتأكيد بمنأى عن قبضة أجهزة الأمن والاستخبارات العربية القادرة على الوصول إلى الجنين في بطن أمه، لكن هذه الأنظمة المرتعدة من أن تمتد توابع "زلزال العراق" إلى عروشهم، التي لا يريدون أن يصدقوا حتى الآن أنها باتت في مهب الريح، تماماً كما كان صدام حسين لا يريد أن يصدق أن زمنه ولّى إلى غير رجعة، حتى اللحظات الأخيرة التي كان حبل المشنقة يلتف حول رقبته، فقد صدق الطاغية هرطقة المنافقين الذين نفخوا فيه حتى تورم، فتصور أنه خالد ولا يمكن المساس به، وربما استبعد حتى أن يموت على فراشه، فضلاً عن شنقه على هذا النحو الحقير، الذي يستحقه، دون دمعة واحدة تذرف عليه، اللهم إلا من "أرامل صدام" الذين تضخمت ثرواتهم من عطاياه. والله غالب على أمره
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
التعليقات
باسم العوادي
2007-01-03
الاستاذ العزيز نبيل شرف الدين ممال لاشك فيه ان في مصر العربية الكثير من اصحاب العقول والكفاءات ومن اصحاب الشرف والغيرة العربية الاصيلة التي لم تلوثها اموال المقبور صدام وانت واحد في مقدمة اولئك وموقفكم المشرف من القضية العراقية ومناصرة الشعب العراقي معروف لدى كل النخب العراقية التي تتابع وتكتب وتطالع وسائل الاعلام العربية . نبارك لكم اصالتكم ووطنيتكم وغيرتكم العربية وشجاعتكم في الوقوف مع الشعب العراقي وانا اعلم ان موقفكم هذا كان من ايام حكومة صدام فدمتم قلما اصيلا لم تلوثه اموال السحت البعث
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
محمود الراشدي : نبارك لكم هذا العمل الجبار اللذي طال إنتظاره بتنظيف قلب بغداد منطقة البتاويين وشارع السعدون من عصابات ...
الموضوع :
باشراف الوزير ولأول مرة منذ 2003.. اعلان النتائج الاولية لـ"صولة البتاوين" بعد انطلاقها فجرًا
الانسان : لانه الوزارة ملك ابوه، لو حكومة بيها خير كان طردوه ، لكن الحكومة ما تحب تزعل الاكراد ...
الموضوع :
رغم الأحداث الدبلوماسية الكبيرة في العراق.. وزير الخارجية متخلف عن أداء مهامه منذ وفاة زوجته
عمر بلقاضي : يا عيب يا عيبُ من ملكٍ أضحى بلا شَرَفٍ قد أسلمَ القدسَ للصُّ،هيونِ وانبَطَحا بل قامَ يَدفعُ ...
الموضوع :
قصيدة حلَّ الأجل بمناسبة وفاة القرضاوي
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
فيسبوك