/ حافظ آل بشارة
تنهمك بعض القوى السياسية بشكل غريب في الصراعات الآنية والخوض في تفاصيل الخلافات اليومية الى المدى الذي يستهلك وقتها وجهدها وينهكها ويضاعف التعقيد في اغلب الملفات المفتوحة ، فلا المشاكل المطروحة تحل ، ولا المعنيون بها مرتاحون في حركتهم اليومية ، تلك القوى تغرق في هذه التفاصيل المتعبة بالشكل الذي يجعلها غير ملتفتة الى مستقبلها السياسي ومصيرها ، فاذا كانت المكاسب العابرة شاغلة الى هذا الحد فذلك لا يبرر تجاهل المستقبل وصوره المتوقعة خاصة عندما تصبح مصداقية بعض تلك القوى على كف عفريت . ولكن الشعور بالخطر من المستقبل والقلق المشروع منه لا يساور الا الذين يعتقدون عن صدق بأن التجربة الديمقراطية في العراق تجربة حقيقية ويمكن ان تتحكم في مسيرة القوى السياسية ، وتصنع المستحيل وتغير مجرى التأريخ بمعاييرها وآثارها المباشرة . اما الذين يؤيدون الديمقراطية كلاميا فهم لا يدركون القوة الكامنة في هذا النهج التأريخي المجرب عالميا ، هناك مشاركون في العملية السياسية لا يؤمنون بالانتخاب والمشاركة والفصل بين السلطات وحقوق الانسان والدستور الدائم وفوقيته ومرجعيته ، وهناك مشاركون يؤمنون بهذه الافكار اجمالا من باب التقليد وركوب الموجة لا عن تصور مستقل وقناعات حقة وفاعلة ، وهناك فريق يؤمن بهذه الرؤية ويريد تنفيذها على الارض وهو مستعد للقتال من اجلها ، هذه الرؤى لا يمكن انكشافها بسهولة الا عبر المحك والاختبارات الموجعة ، والخلافات الحالية بين الاطراف تساعد على كشف التوجهات . يبدو ان ظروف العراق الخاصة تجعل الكثير من الاطراف السياسية تشعر بان النهج الديمقراطي لا يلبي جميع طموحاتها وهناك دائما طموحات لا تتحقق الا بالتخلص من الديمقراطية او تعطيل نشاطها في بعض المفاصل ، فهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض . ان هذه الافكار وغيرها لا تشكل خطرا الا اذا تحولت الى عناصر فتنة على الارض ، كما ان الجزء المسكوت عنه في هذه التجربة هو الاكثر خطورة ، ويمكن تلخيصه بأنه فقدان ثقة متنام ومضطرد في اوساط الناس ببعض القوى التي هجرت مهماتها الدستورية الاساس وواجبها الوطني في خدمة الجمهور وانشغلت في خلافاتها وصراعها على المكاسب التافهة ، وفقدان الثقة المقصود ليس ذا مدلول اخلاقي بقدر ما هو تعبير مهني ، فالناس قد ترى في الشخص الفلاني او في الحزب الفلاني قدوة في الجانب الاخلاقي او القيمي لكنها لا ترى فيه كفاءة لادارة الحكم ، وتستدل على ذلك بالمراوحة والتوقف والانسداد وشيوع حالة الفشل والتلكؤ ، هناك عدد كبير من الملفات نوقشت في الحكومة والبرلمان واسهمت في وضع القوى السياسية امام اختبارات صعبة وساعدت في تصنيفها بوضوح ، ومن ابرز تلك الملفات : قضية مجلس السياسات العليا ، مشكلة تعيين الوزراء الامنيين ، مشروع ترشيق الحكومة ، مصير مفوضية الانتخابات ، مصير مفوضية النزاهة ومكافحة الفساد ، استمرار الازمة الامنية ، استمرار ازمة الكهرباء ، تصاعد ظاهرة الفساد المتعدد الاشكال ، قانون النفط والغاز وتداعياته ، فكل ملف من هذه الملفات تحول الى مشكلة وليس حلا لان كل طرف يعتقد بأنه معرض للسرقة من قبل الاطراف الاخرى ، فالقوى الموجودة في الحكومة مثل ركاب سفينة يخشى احدهم الآخر . السؤال المطروح على نطاق واسع هل ان الصراع بين الساسة هو صراع على المكاسب الشخصية ام على المكاسب الشعبية ؟ هل يريد الطرف السياسي المعني ان يحقق مصالحه الشخصية ام يحقق مصالح الناس الذين انتخبوه وهو يمثلهم ؟ هل يبكي على مصالح قواعده ؟ اغلب الرأي العام يقول بأن الاطراف المتصارعة لا تفكر بمصالح الناخبين والناس والمستضعفين ولا تهتم بها . الشعب العراقي ليس هو اثقف شعوب المنطقة لكنه اكثر شعوب المنطقة لوعة وعذابا ومعاناة من انظمة الهيمنة السياسية التي تفضل مصالح الحاكمين على مصالح الناس ، وتجري هذه الايام مقارنة متواصلة بين النظام السابق والنظام الحالي من ناحية القيم الاخلاقية للمؤسسة ، وهذه المقارنة بدأت في السنتين الاخيرتين ولم تكن قائمة من قبل فقد اصبحت ترد في حديث المواطن ، وهذا تحول لافت دال على الاحباط وفقدان الثقة . ان فقدان الثقة الشعبي برموز العملية السياسية القائمة الآن هو عنصر تحريك للبحث عن حل وقد توفرت له مشجعات محلية واقليمية اهمها ان النظام القائم في العراق الآن هو نظام غير قمعي وفيه فرص نسبية للتعبير عن الرأي والتظاهر والاحتجاج ، كما ان احداث الربيع العربي بعثت موجة التغيير في كل مكان ، الا ان الربيع العراقي سيكون مختلفا ، في العالم العربي هناك غضب وطلب ثأر ودعوة لمعاقبة الانظمة واسترداد حقوق الضحايا ، اما في العراق فالناس قد يجمعون على محاكمة ومعاقبة نظام منتخب ، اي انهم لن يستخدموا لغة الانتقام والفوضى ، فهناك اطار دستوري مفترض ويكفي الشعب مثلا ان يطالب بتفعيل آليات التغيير التي ضمنها الدستور والنظام الانتخابي لتغيير القوى والوجوه التي فشلت وفقدت ثقة الجمهور بها وهو امر طبيعي يدخل في اطار تداول السلطة وليس الثورة كما يحلو للبعض ان يصورها ، فالديمقراطية اداة تغيير وتجدد سلمية ، لذا ينتقل الصراع الى مستوى آخر فقد يسعى بعض المستفيدين من الفساد والتدهور الامني والفوضى الى اعاقة آليات عمل النظام الديمقراطي لتعطيله واطالة مدى بقاء البعض في السلطة ، فاذا كان الحكام العرب يؤخرون لحظة السقوط باستخدام آليات القمع فان طواغيت النظام الديمقراطي قد يعمدون الى شل الاليات الديمقراطية مؤقتا لتأخير عملية الاستبدال او ايجاد ظروف امر واقع تؤجل اجراءات الاستبعاد ، ويمكن للمراقب ان يتخيل حالات من الشلل المفتعل لاعاقة الاليات الديمقراطية في التغيير ، مثلا ابقاء البلد بدون دائرة مختصة تدير الانتخابات لمدة طويلة ، حجب واعاقة دور مجلس النواب وتحويل القرار الى الكتل السياسية خلف الكواليس ، اجبار طرف سياسي كبير على الانسحاب من العملية السياسية ، افتعال توتر امني واسع يجعل اعادة الامن اولوية اولى وان تم تعليق الديمقراطية والدستور مؤقتا ، المماطلة والتأجيل في بحث الملفات العالقة بالشكل الذي يجعل اطرافا تفقد صبرها وتتصرف بطريقة خاطئة توفر مبررات لدخول حالة طوارئ مفتوحة تعطل كل آليات الانتخاب ، كما ان تحويل الاضواء والانظار باتجاه أزمات جديدة مختلقة يضمن ابقاء الازمات السابقة في دائرة الظلام مع استمرار اثارها السلبية ، او وضع البلد في اشكالية تقتضي وقف الديمقراطية مؤقتا بموافقة الشعب ، هذه التدابير وان ضمنت لمن يقف وراءها اياما اضافية في السلطة الا انها تزيد من مستوى فقدان الثقة في الشارع ، وتصبح الانتخابات العامة المقبلة دائما فرصة لاستبدال سياسي واسع وثورة متكررة سلميا . مرة بعد أخرى ، ومن يتابع موقف الشارع العراقي من القوى الوطنية الحالية يجد ان هناك دقة في التشخيص فالجمهور قادر على ان يحدد الطرف المخطئ ثم الساكت عنه والمساند له ثم المناوئ ومن هم اصحاب الاعمال والمبادرات الحقة ومن هم اصحاب الخطابات والشعارات ، ولا يمكن للمجس الشعبي ان يخطئ في تحديد الفاشل والناجح ومن هو الاصلح والاقدر على تحقيق مصالحه ، لذا يبدو ان المستقبل السياسي لكثير من القوى اصبح غير مضمون فيما تتصدر قوى جديدة المشهد اما لمواقفها المساندة للجمهور او لمنجزات حققتها في حكومة سابقة او لدعوة جديدة تطلقها من أجل الاصلاح .
https://telegram.me/buratha