عمار احمد
تعتبر الفترة الزمنية المحصورة بين الرابع عشر من تموز من عام 1958 والتاسع من نيسان من عام 2003 فترة غياب حقيقي للسياقات والضوابط الدستورية في العراق، لان هذه الفترة التي تمتد الى خمسة واربعين عاما شهدت غياب دستور دائم للبلاد مكتوب ومصاغ بطريقة صحيحة، ومقبول من قبل عموم ابناء الشعب العراقي، وبدلا من وجود دستور دائم شهد العراقيون دساتير مؤقتة عديدة خضعت في صياغاتها وكتابتها لمزاج الحكام ونزعاتهم ونزواتهم، ولاح منها الحسن الطائفي والمذهبي والقومي بوضوح ، وكانت اشبه ما تكون بعملية ذر الرماد في العيون، حيث جرت تحت مظلتها ابشع الجرائم ومررت افضع السياسات، واوضح وابسط المظاهر التي افرزها غياب الدستور هو الانقلابات العسكرية والمؤامرات والتصفيات الجسدية والحروب والصراعات الداخلية وطغيان النزعات الديكتاتورية الاستبدادية التي وصلت في عهد نظام البعث الصدامي الى اوجها. بعبارة اخرى يمكن القول ان غياب الدستور الحقيقي كان من بين ابرز عوامل طغيان الاستبداد واستفحال الظلم والفساد واندلاع الحروب والصراعات الداخلية والخارجية.وبعبارة اخرى ان الديكتاتورية غالبا او دائما ما تقترن بغياب الدستور والقانون، والنظام الديمقراطي الحقيقي يتأسس ويرتكز بالدرجة الاساس على الدستور، ومن الصعب بمكان ان نعثر على نظام ديمقراطي يفتقد الى الدستور.وبعد سقوط النظام الصدامي، كان لابد ان يتجه اهل الحل والعقد الى التحرك والعمل الجدي لوضع دستور دائم للبلاد بمقاسات وطنية وبأرادة وطنية وبعيدا عن الاملاءات الخارجية، وهذا ما تحقق وابصر النور في الخامس عشر من شهر تشرين الاول من عام 2005 بعد مخاضات عسيرة جدا.وما يمكن ان يسجل من ملاحظات بهذا الشأن:1-انه كان هناك صراع محتدم بين الارادات الوطنية والارادات الخارجية بشأن طبيعة وجوهر ومحتوى الدستور العراقي، وفي النهاية انتصرت الارادات الوطنية على الاردات والاملاءات الخارجية.2-كان للمرجعيات الدينية المباركة وفي مقدمتها مرجعية الامام السيد علي السيستاني دور كبير وفاعل في كتابة الدستور واقراره، وكان هناك دور فاعل وكبير لشخصيات سياسية ودينية وقوى وطنية عديدة في تحقيق ذلك المنجز الوطني الكبير. 3-لم يكن الدستور العراقي النافذ في 15 تشرين الثاني متكاملا، بل ان نواقص وثغرات غير قليلة فيه، وكانت الحاجة ماسة منذ وقت مبكرة لاجراء التعديلات المطلوبة عليه ، وهذا ما استدعي تشكيل لجنة من اعضاء مجلس النواب اطلق عليها لجنة التعديلات الدستورية مهمتها دراسة وبحث التعديلات وعرضها على البرلمان ومن ثم على الشعب في استفتاء شعبي عام.4-اذا كان الدستور قد ووجه برفض وتحفظات واعتراضات وطعن في شرعيته من قبل بعض الاطراف السياسية، فأنه بات اليوم يمثل مرجعا ومستندا للجميع، فكل طرف حينما يريد ان يتحدث بقضية ما فأنه يعود الى الدستور ليستشهد بهذه المادة او تلك.5-اذا كان هناك ضعب وارتباك وتخبط في العملية السياسية الجارية في البلاد ، فذلك بسبب الاختراقات والتجاوزات والانتهاكات للدستور من قبل بعض القوى السياسية المشاركة، لابسبب وجود دستور يتفق الجميع ان فيه مقدار من الضعف والخلل.وعلى ضوء النقطة الاخيرة نشير الى ان معيار نجاح العملية السياسية والتقدم الى الامام وترسيخ النظام الديمقراطي للبلاد، وقطع الطريق بالكامل امام اية نزعات او طموحات لاعادة الامور الوراء، يتمثل بالالتزام الحقيقي بالدستور، والعمل الجاد والجماعي لتقويته وتعزيزه، عبر الاضافات المطلوبة والتعديلات والحذف اذا كان ضروريا، وتفعيل مواده التي تشير الى انها تنظم بقانون.ومن دون ادنى شك فأن دراسة التجارب الدستورية للدول ذات الانظمة الديمقراطية تعود بفائدة كبيرة لتجنب الوقوع في بعض الاخطاء التي قد تترتب عليها نتائج سلبية كبيرة، وتوظيف جوانب القوة لتعزيزها اذا كانت موجودة وتضمينها الدستور اذا كانت غائبة، وبما ينسجم مع حقائق الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي للعراق.
https://telegram.me/buratha