السيد حسين الصدر
يتعرّض الحكاّم جميعاً ،على اختلاف مواقعهم ،الى هبوب رياح الضغوط العاتية عليهم ،من قِبل أقرب الناس اليهم ،وقد يستجيبون حياءً وخجلا ، فتزداد ضراوة تلك التدخلات حتى تصل الى حدّ مُرعب ، يُنذر بالكوارث ، وبالعواقب الوخيمة ، ويهدّد بالاخلال بالنظام العام .يقول الشاعر العربي :صاحبُ الحاجة أعمى لا يرى الاّ قضاها ومن منطلق الحرص على قضاء الحاجة ، يبدأ أصحاب الحاجات ، عملية التمشيط ، بحثاً عن العناصر المؤثرة ، والقادرة على انجاز حاجاتهم عند هذا المسؤول أو ذاك .فقد تؤدي نتائج البحث المستفيض عن صاحب التأثير الأقوى على الحاكم الى أنه ( أب ) الحاكم أو ( أُمّه ) أو ( أخوه ) أو أي انسان آخر فليس المهم عند أصحاب الحاجات درجة القربى أو نوع الصلة وانما المهم عندهم التأثير على صاحب القرار باتجاه انجاز ما يريدون .وربما كان المؤّثر صديقاً مُقَرّباً وان لم يكن من الأرحام .وما أعظم ابتلاء اولئك الذين يكتشفهم الباحثون عن أصحاب التأثير القوي على الحكام ،وما أشدَّ عناءهم عبر كثرة المراجعات والطلبات ،التي تبلغ أحيانا الى حدّ الإرهاق والازعاج .انهم يستقبلون آناء الليل وأطراف النهار شتى الطبقات ،ومختلف الشرائح من الرجال والنساء ، ومن الأثرياء والفقراء ....ان العراق الجديد شهد نشوء طبقة جديدة تتولى مهام انجاز المعاملات المطلوبة وفق جدول معيّن للأسعار ،يتذبذب صعوداً ونزولاً ، طبقاً لأهمية الموضوع وما يتوقع أن يحققه من الأرباح !!وهذه العمليات لا تخرج عن كونها عمليات فساد ماليّ واداري مرفوض بكل المعايير القانونية والاجتماعية والأخلاقية .اننا لا ننفي بالمطلق رضوخ البعض لرغبات مُراجعيهم في التدخل عند هذا المسؤول أو ذاك ، بدوافع انسانيه بعيدة عن الربح المادي ، ولكننا لا يمكن ان نتغاضى عن قسم آخر لا ينطلق من تلك المنطلقات الشريفة .ان جوهر المشكلة هو الصراع بين مجرى العدالة ،والحفاظ على الضوابط الموضوعية ، وتطبيق القانون بكل دِقَّةٍ على الجميع ،وبين تعطيل القانون والتحايل عليه . واستثناء بعض الناس من الخضوع للقانون لاعتبارات خاصة ، مراعاة لحرمة القرابه أو الصداقة .ولا شك ان حرمة العدل والقانون هما أكبر من كل حرمة مدّعاة في هذا الباب، وان تكريس المحاباة ،والرضوخ لمبدأ التمييز بين المواطنين في التعامل ،بنحو يستثني بعضهم من أحكام القانون ،دون غيرهم ،انما هو اجحاف وظلم وانحراف وتضييع لحقوق المواطنة .فاللازم اذن اتخاذ القرار الحاسم بإيصاد الباب أمام كل المحاولات البعيدة عن رحاب القانون والعدل .ولكن ذلك لا يعني ان يُغيّب الإحسان عن التعامل مع الناس وأصحاب الحاجات منهم على وجه الخصوص .والاحسان يقتضي التعاطي الرحيم المرن ، الذي لا يُحْجِمُ عن تقديم كل مساعدة في اطار الإمكانات المتاحة .ان الله سبحانه وتعالى أمر بالعدل والاحسان معا حيث قال عز اسمه في محكم كتابه العزيز :{ إن الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكّرون } النحل /90وبهذا المزيج الفريد من العدل والاحسان ، تستقيم الامور ،وتجري الحياة على منهج متوازن كريم .ان موقف امير المؤمنين الأمام علي بن ابي طالب (عليه السلام ) من أخيه عقيل حين استماحه من بُرّ المسلمين صاعا ، قضية معروفة ، تتألق على مرّ الازمان والاجيال ، وتبقى مشعّةً بعطائها الثّر حيث رفض ايثار الشقيق على حساب باقي المواطنين .ان الامام ( عليه السلام ) استمهله ليمنحه من عطائه الخاص ، لا من عطاء المسلمين ، وهذه قمةُ العدل والانسانية .وبهذا أصبح القدوة ومضرب الأمثال ....ولكّن السائد اليوم في اوساطنا شيء اخر، لا يمت الى ذلك بنسب ولا سبب ان عناية معظم المسؤولين لا تتجاوز الابناء والبنات والاقرباء والانصار اما سائر المواطنين فانهم منسيون !!" وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون "وقد وقفتُ على قصة لا تخلو من فائدة اسوقها كما وردت في شرح نهج البلاغة لابن الحديد ج 16 ص 268 نقلاً عن الزبير بن بكار ، قال:{ كانت الخيزران كثيراً ما تكلّم موسى ابنها - لما استخلف - في الحوائج وكان يجيبها الى كلّ ما تسأل حتى مضت أربعةُ أشهر من خلافته ، وتتالى الناس عليها ، وطمعوا فيها فيها ، فكانت المواكب تغدو الى بابها وكلمته يوماً في أمر، فلم يجد الى اجابتها سبيلاً ،واحتجّ عليها بحجةّ فقالت :لابُدَّ من اجابتي ، فقال :لا أفعل ، قالت :إني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك فغضب موسى وقال :ويلي على ابن الفاعلة !قد علمتُ أنه صاحبها والله لا قضيتها لك ولا له ! ، قالت :والله لا أسألك حاجة أبداً ، قال :اذن والله لا أبالي فقامت مغضبة فقال :مكانك تستوعبي كلامي وأنا والله برئ من قرابتي من رسول الله ( ص ) لئن بلغني أنه وقف أحدٌ من قواّدي وخاصتي وخدمي وكتّابي على بابك ،لأضربن عنقه ، ولأقبضن ماله ، فمن شاء فليلزم ذلك .ما هذه المواكب التي تغدو الى بابك كلّ يوم !أما لك مِغزَلٌ يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك !إيّاكِ ثم اياّكِ ان تفتحي فاك في حاجة لملّي أو ذمّي فانصرفت وما تعقل ما تطأ عليه ولم تنطق عنده بحلوة ولا مرّة بعدها حتى هلك } أقول :لقد أخطأ موسى الهادي مرتين : مرةً لانه سمح خلال الأشهر الأربعه الأولى من ملكه بان يفتح الباب على مِصْراعيْه لأمه بالتدخل في شؤون البلاد بدون مراعاة للقواعد والضوابط.ومرة لأستخدامة الفحش والبذاءة ، والأسلوب الخشن البعيد عن اللين في خطابه مع أمّه .ولكنه لم يُخطأ حين أغلق هذا الباب ، باب التدخلات التي لانهاية لها والتي تعني تكريس المحسوبيه والمنسوبية ، وهي مظهر من مظاهر الفساد الاداري المشؤوم ان من المهم جداً التفريق بين أمرين :الأول : الحفاظ على اللياقات المطلوبة في التعامل مع الأقرباء وهذا ما يجب التمسك بأهدابه ، بكل قوّه .الثاني : تحكيم الضوابط والمعايير الموضوعية ، بعيداً عن كل ألوان المحاباة والانحياز والتأثر بتدخلات الأقرباء والاصدقاء .
https://telegram.me/buratha