عادل الجبوري
في بغداد وواشنطن على حد سواء ترتفع في هذه الايام وتيرة الحراك المتعلق بأستحقاقات الانسحاب العسكري الاميركي من العراق والمقرر استكماله نهاية العام الجاري وفق الاتفاقية المبرمة بين الطرفين في كانون الاول-ديمسبر 2008.والحراك في بغداد يختلف عن الحراك في واشنطن، وهذا ما تؤكده المعطيات والمؤشرات الظاهرة في الافق وعلى الارض.في بغداد يبدو الارتباك والتناقض والغموض في المواقف هو السمة الاكثر بروزا، وحتى كتابة هذه السطور لم يتبلور موقف واحد موحد منسجم ومعبر عن متطلبات ومقتضيات المصالح الوطنية.تصريحات كبار الساسة والقوى السياسية العراقية المختلفة تكشف بوضوح عن ذلك الارتباك والتناقض والغموض.فبعد عن صرح رئيس الوزراء نوري المالكي بأن عدد الاميركان الذين سيبقون في العراق لاغراض التدريب لن يصل الى ثلاثة الاف شخص، اعلن رئيس الجمهورية جلال الطالباني ان خمسة الاف اميركي سيبقون بعد العام الجاري.قوى سياسية مثل التيار الصدري تؤكد بأنها ترفض رفضا قاطعا بقاء جندي اميركي واحد بعد حلول الموعد النهائي للانسحاب، بينما قوى سياسية اخرى مثل التحالف الكردستاني الذي يمثل المكون الكردي، مازالت ترى ضرورة بقاء الاميركان. في ذات الوقت تحاول قوى سياسية اخرى التهرب من تبني موقف واضح، وتكتفي بالقول انه تم في وقت سابق تخويل رئيس الوزراء صلاحية التفاوض مع الجانب الاميركي وتقدير مدى حاجة العراق الى وجود قوات اجنبية على اراضية.اضف الى ذلك فأن القرار الذي خرج به المجتمعون بمنزل الرئيس الطالباني الاسبوع الماضي القاضي بأبقاء اعداد من القوات الاميركية لاغراض التدريب دون منحهم الحصانة، لم يقطع دابر الجدل والسجال، ان لم يكن قد وسع دائرته، مع طرح جملة اثارات وتساؤلات تبدو منطقية ولابد من ان تكون لها اجابات محددة وواضحة ومقنعة.. وهذه الاثارات والتساؤلات من قبيل:-كم هو العدد الحقيقي الفعلي للقوات الاميركية التي يفترض بقائها؟-كيف سيتم دخول افراد تلك القوات الى العراق.. عبر تأشيرات دخول (فيزا) كما هو متعارف عليه ام بطرق ووسائل اخرى؟.-اذا كان الهدف من بقاء عدد من الاميركان هو لاغراض التدريب، فهل هذا يعني ان العراق سيعتمد على الولايات المتحدة بالكامل في تسليحه وبناء قدراته العسكرية، ولماذا لايصار الى الاستعانة بمدربين من دول حلف الناتو مثلا وليس من الولايات المتحدة فقط؟.-كم هي الفترة الزمنية المطلوبة لبقاء المدربين .. هل ستكون مفتوحة وخاضعة للظروف ام انها محددة منذ البداية وفق رؤى وتصورات واقعية واضحة؟.والى الان فأن قضية بقاء القوات الاميركية بأعداد معينة بعد هذا العام لم تطرح على طاولة البرلمان العراقي، وهناك محاولات ومساعي لابعادها عن دائرة البرلمان وحسمها في مفاصل اخرى، لانه مثلما يرى المعنيون بالامر ان طرحها في البرلمان يعني الدخول في متاهات معقدة وشائكة يصعب الخروج منها بأية نتائج.في مقابل كل ذلك وغيره، تشهد واشنطن تحركات محمومة لترتيب انتقال ملف التواجد الاميركي من وزارة الدفاع الى وزارة الخارجية، اي بعبارة اخرى اظفاء صبغة سياسية-دبلوماسية بعض خطوطها امنية على الوجود الاميركي الذي لايمكن ان تتصور واشنطن انهائه من العراق على المدى المنظور. بعض وسائل الاعلام الاميركية من بينها صحف وقنوات تلفزيونية اخذت تتحدث مؤخرا عن جهود وتحركات محمومة لوزارة الخارجية في اطار الاستعدادات لتسلم المسؤولية من الجيش الاميركي في العراق.وتشير التقارير الى انه سيكون للخارجية الاميركية-وتحديدا سفارتها في بغداد-اسطولها الجوي الخاص المؤلف من ست واربعين طائرة، الى جانب المرافق الخدمية المختلفة من مراكز صحية واماكن ترفيه ومؤسسات تعليمية ووحدات سكنية، وان اكثر من اربعة الاف وخمسمائة مقاول من جنسيات مختلفة سيتولون مهمة تقديم خدمات الطعام والتنظيف والرعاية الطبية والنقل وغيرها، الى جانب توجه الوزارة للتعاقد مع شركات امنية خاصة لتنسيب خمسة الاف عنصر امني تكون مهمتهم تأمين الحماية للسفارة والقنصليات الاميركية في المحافظات، ومراكز الدعم المتواجدة في المطارات العراقية ومنشات التدريب العسكري التي من المتوقع انشائها.وفي الوقت الذي يشير عدد من المسؤولين الاميركان الى ان العدد الكلي للعاملين في السفارة الاميركية ببغداد لن يتعدى الالف وستمائة شخص بضمنهم الدبلوماسيين، تذهب مصادر مطلعة بعضها عراقية الى ان العدد قد يصل الى ستة عشر الف شخص، ما عدا العاملين في الشركات الامنية وقطاع المشاريع الاستثمارية والاعمارية المختلفة.وفي هذا السياق يؤكد صحافيان امريكيان هما ماري بيث شيريدان ودان زاك "انه سيعمل تحت امرة السفير الاميركي في بغداد نحو ستة عشر الف مدني، وهو مايماثل حجم فرقة عسكرية".ولعل التعبير الذي يستخدمه عدد غير قليل من عموم العراقيين هو الاقرب الى الواقع، اذ يقولون "اذا خرج الاميركان من العراق فعلا، فأنهم سيخرجون من الباب، ليدخلوا مرة اخرى من الشباك"!.قد تبدو الصورة العراقية التي يفترض ان ترسم وتكتمل خطوطها وملامحها والوانها لمرحلة مابعد الانسحاب ضبابية وغامضة ومشوشة الى ابعد الحدود، بينما المسارات في واشنطن تبدو مشخصة بدرجة كبيرة، والخيارات والبدائل مرسومة ومحسومة.. وهذا امر ينطوي على مخاطر جمة لابد من اخذها بنظر الاعتبار لمن يعنيهم الامر وبأيديهم زمام القرار والمبادرة هنا في بغداد.
https://telegram.me/buratha