حسن الهاشمي
كفاكم بالموت واعظا، طالما طرقت هذه المقولة مسامعنا ولكن هل أثرت في نفوسنا؟ وهل غيرت من تصرفاتنا المشينة؟ وهل شذبت من أقوالنا وأفعالنا وما يبدر منا حيال الآخرين؟ ولا تزال صرخاتها تهتف فينا أن أخلصوا العمل وقدموا ما فيه الخير والصلاح للبشرية، لأن مآلنا إلى جدث ولا ينفعنا حينئذ سوى الخير والعمل الصالح، ونترك وراء ظهورنا المال والبنون والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والإنسان حينما يخوض معترك الحياة ويحتدم صراعه مع مفرداتها اليومية ريثما يصل إلى مبتغاه يكون له بطبيعة الحال هدفا من وراء تحركه هذا، فإذا ما شاب هدفه تعاليم السماء والغيبيات فإنه يؤطر ما ينتهجه من مقاسات دنيوية بإطار الدين والأخلاق، فيتعامل مع الأمور بمبدأية خلافا لما هو خارج نطاق التأطير الأديولوجي، فإن مساقاته ربما تنحرف عن مبتغياتها المتعالية ربما بسبب تأثيرات النفس والهوى والبيئة على الفطرة السليمة التي هي بين جنبيه.فالذي يضع الموت نصب عينيه ويعتبر الموت هو بداية مآل وليس نهاية حال، فإن حاله بلا شك يكون أفضل من ذلك الذي يعتبر الموت هو فناء للإنسان دون رجعة، حيث إن تفكير الأول ينصب بخالقية ومدبرية الكون خلافا للثاني فإنه فلسفته للموجودات في الحياة لا تعدو كونها مخلوقات تكونت نتيجة تفاعلات كيمياوية نتجت عن طريق الصدفة في شكلها الذي نراه عليها، وأيا كانت التفسيرات فإن العقل السليم يدحض جميع الآراء المادية التي ترجع الخلق والأمر إلى عدم، وإنهما ببديهة العقل يغايران حتى التفسيرات المادية التي يعولون عليها في ماهية الأشياء.وعليه فالمؤمن يعتقد إن (( الدنيا مزرعة الآخرة )) لذلك تراه يسعى بكل ما يملك من طاقة نحو تسخير هذه المزرعة من أجل ثمار أينع وظل أوفر، قبل أن يغمض عينه ويفتحها ويرى نفسه وقد سلبت قوتها وشبابها وصحتها وغناها وحياتها كلها، وهذه هي الفرص الأهم في هذه الحياة، كما أوصى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أبا ذر بها حيث قال: يا أبا ذر، اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك. إن الزمن يقرض حياتنا، فهو كالمنشار الذي يعمل في الشجرة حتى يجعلها تهوي أرضا، قال الإمام علي عليه السلام: (( ما نقصت ساعة من دهرك إلا بقطعة من عمرك)) إن معدل حياة الإنسان في عصرنا هو ما بين الستين والسبعين عاما، ولكنها ما تلبث أن تنقضي، ولتجرب يوما أن تسأل شيخا مسنا عن شعوره تجاه أيام عمره السالفة، وستجده يجيبك: لقد مضت كلمح البصر. عندما جاء ملك الموت إلى نبي الله نوح عليه السلام، سلم عليه، فرد نوح السلام عليه، وقال له: ما حاجتك يا ملك الموت؟ - جئت لأقبض روحك. - دعني أنتقل إلى الظل. - تفضل. فانتقل نوح إلى الظل، ثم قال لملك الموت: ((كأن ما مر بي من الدنيا مثل تحويلي من الشمس إلى الظل، فامضي لما أمرت به )). وقد كان عمره عليه السلام - آنذاك - ألفي سنة وأربعمائة وخمسين عاما! فكيف بنا نحن، مع أن الثابت إن عمر الإنسان اليوم أقصر بكثير من عمر السابقين، بيد أننا نجد الكثير من الناس يتمادى في غيه وغفلته، فلا يحسب للوقت حسابا في حياته، فالأكل، والنوم، والأحاديث الباطلة تأخذ جل وقته، وقلما تجده يقرأ كتابا، أو يتصفح صحيفة، أو يقوم بعمل خير، وبعبارة أخرى: يصرف من وقته على اللعب أكثر مما يصرف في الجد، وعندما تذكره أو تعظه، يجيبك قائلا : لدي وقت طويل. إن الجهل سبب من أسباب الغفلة عن اغتنام الوقت واستغلاله، فيحسب المضيع لوقته أن المال أغلى وأولى بالاهتمام، بينما يقول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: (( كن على عمرك أشح منك على درهمك ودينارك)). انك تبخل بدينارك على دينك، وتبيح أوقاتك للعدم، أفلا تفكر في الإعداد لآخرتك؟ فماذا سينقذك غدا إن لم تسخر دقائق ولحظات حياتك من أجل آخرتك؟ وهل يحسب الإنسان أن الوقت سينتظره؟ إن الوقت لا ينتظر الإنسان بل سيخطفه خطفة لا يشعر بها ليجد نفسه أمام الميزان في يوم الحساب. فرق واضح وشاسع بين من يؤمن بالحساب والكتاب بعد الموت، فإنه يهذب ويشذب أقواله وأفعاله طبقا لموازين العدل والإنصاف والسيرة الحسنة وحفظ الحقوق وعدم الاعتداء والظلم إلى غيرها من المناقب السامية التي تحفظ النظام والحقوق والمكتسبات العامة والخاصة، على العكس مما ننتظر من منكري الحساب بعد الموت فإنه ربما يكون منساقا لميوله النفسية ومصالحه الشخصية دون مراعاة للمصالح العامة، وبالتالي قد يكون معولا هداما في المجتمع لا يقدم على شيء إلا وفيه مصالحه الضيقة، ولا يعير لأمور الخير والإحسان تجاه أبناء جنسه وجلدته أية أهمية حيث يعد تلك الأمور خسارة بينما هي ذاتها ربح وفوز ونعيم خالد في قاموس المؤمنين والمتعظين بالموت الذي ينزل بساحتنا جميعا دون استثناء، ولكن هنيئا لمن يجعله جسرا للوصول إلى شاطئ الأمان.
https://telegram.me/buratha