مقال كتبه عادل عبد المهدي نائب رئيس الجمهورية السابق بتاريخ 17/10/2011
تجربة مجلس الاعمار هي الاوضح والاكثر رشداً ومنفعة لاستثمار واردات النفط. ففي 1950 تشكل المجلس وخصص له الريع النفطي كاملاً.. تكون المجلس من رئيس الوزراء نوري السعيد ووزير الاعمار ضياء جعفر وستة مستقلين غير حكوميين ومستشارين بريطاني وامريكي. فنفذ المشاريع الاعمارية والاروائية مثل سد سامراء والثرثار ودوكان ودربندخان التي تشكل قاعدتنا الاساسية لمواجهة الفيضانات وخزن المياه، واقل منهما الكهرباء.. ومشاريع مهمة اخرى.. وامام تضخم الدولة، وتراجع الاقتصاد، خصصت الدولة لنفسها 30% من الموارد. ومع اعلان الجمهورية والغاء المجلس وسيطرة الجيش وتوسعه، وجهت كامل الموارد النفطية للموازنة لتشكل 95% منها، ولحوالي 70% من الناتج الوطني، كادانة تاريخية لانحراف مساراتنا.
سعى الدستور لقلب المعادلة، فجعل النفط والغاز ملكاً للشعب.. فالدولة النفطية الريعية فيها عيبان قاتلان.. الاول يتعلق بطبيعة القطاع النفطي الذي لا يحرك عوامل انتاج داخلية.. ومعظم دول العالم الثالث تعتمد على تصدير سلعة او سلعتين.. لكن تلك السلع كالسكر او الرز تستخدم الكثير من الايدي العاملة ورؤوس الاموال الموزعة على بنى وخدمات وصناعات مختلفة تساعد في تحريك الاقتصاد من الادنى.. وليس كالموارد النفطية التي تحرك الاقتصاد عبر الانفاق الحكومي من الاعلى. فالنفط، بانحصاره تقريباً في الاستخراج، هو اقرب للاقتصاد الخارجي منه للداخلي. اما العيب الثاني فان الاموال السهلة الاتية من الخارج تفصل الدولة عن قاعدتها الشعبية وتعطيها قدرات عظيمة لتأسر كل ما عداها.. لتزداد احتكاراً على الصعيد الاقتصادي وعلى الصعيد الامني والسياسي والقيمي والخلقي والثقافي والقانوني.. والقضية ليست قضية اشخاص بل بنى حاكمة تهرس الافراد لتعيد قولبتهم.. فيأتيها القوميون واليساريون والاسلاميون والليبراليون فيتحولون -كقاعدة- الى ادوات يخدمون عقلها وسلوكها الاستهلاكي التبذيري الاتكالي المطلبي اللامسؤول واللاانتاجي. فالمواطن لا يعيل الدولة ليحاسبها. بل هي التي تحاسب.. والمواطن لا يطلب من الدولة حقوقه.. بل هي المانحة والمتكرمة والمتفضلة.. فاساسها ومآلاتها وضع اليد والعنف والقسر والفشل والفساد والكسل والكذب. فتعكس هذا وغيره كقيم وسلوكيات اجتماعية. ومن لم تقنعه التجارب التاريخية فلديه غشاوة وسيصعب اقناعه قبل نزعها. فعندما نتكلم عن الفساد واللاانتاجية وضعف المواطنة والعسكرة والاتكالية ونقص الكفاءة يجب ان نستذكر واقع الدولة الريعية.. واي اصلاح لهذه القضايا وغيرها متعذر قبل التفكير بخطوات جدية لبناء دولة الجبايات ودولة المواطن.***
لا يمكن تخليص الدولة الريعية من الفساد والعسكرة والاتكالية واللاانتاجية.. وهي سمات ستنقلها بالضرورة الى المجتمع الذي تسيطر عليه وتتحكم به وتحتكر كافة مصالحه تقريباً. فتتعطل انتاجية المجتمع وتزداد مصادر الغش والكسل فيه، مما يزيد من ازمة النظام واعتماده الكلي على النفط. فما الذي يمكن عمله في وضع تراكمت فيه العوامل السلبية وتشابكت ببعضها لتشكل اعمدة هذا النظام.. فان اقتربنا من احدها فستنتفض شبكة المصالح المافيوية والاداريات الاقطاعية.. لتطوق اي جهد اصلاحي.. ولتحول صاحبها الى مخرب وعابث.. يريد الهدم والتآمر.. بدل البناء والتغيير.
بشكل عام، يمكننا العودة الى تجربة مجلس الاعمار، مضافاً اليها عملية واسعة لتمليك الشعب وتمكينه.. فنطلق وفق برنامج متدرج المزيد من الاموال في مشاريع البنى التحتية والارتكازية، لتبقى الدولة مالكتها وادارتها بشكل عام.. وبموازاته اعادة الكثير من الاصول الى الشعب واطلاق المزيد من الاموال لاستصلاح الاراضي وبناء المساكن والمعامل والشركات والمؤسسات والمصالح والمدارس والجامعات والمستشفيات.. التي يكون فيها ابناء الشعب مالكين مؤسسين وتكون بادارتهم باشكالها المختلفة بشكل عام. وكلما ازدادت هذه المصالح وسحب المجتمع والشعب العمالة والاقتصاد والمؤسسات الى مالكيته وادارته، كلما طوقنا الدولة الريعية ووسعنا من ملكية الشعب وانتقلنا الى اقتصاد الجبايات.. ليصبح النفط نعمة واموالاً اضافية تساعد في اصلاح واعمار البلاد، وليس نقمة كما قد يبدو الان. وستتطلب العملية سلسلة اصلاحات في انظمة العمل والملكية والضمان الاجتماعي والضريبة والمصارف وغيرها من مستلزمات.
في تجربة مجلس الاعمار اعتمدت الدولة على المجتمع وفعالياته وعلى الجبايات اصلاً، وان جوهر العمالة اجتماعية وليست وظيفية.. ومجموع المصالح والقطاعات الانتاجية والخدمية الاهلية هي الاساس في الناتج الوطني.. والقوات المسلحة قليلة العدد، فجاءت موارد النفط المتزايدة اضافة كمية ونوعية، بدون توقف او ضرر لاحد، لتخصص بالكامل للمشاريع الاعمارية. اما اليوم فان المجتمع المعدم الفعالية، الفاقد المبادرة صار يعتمد كلياً على الدولة وموارد النفط. مما سيواجه بمعارضة شديدة من كثيرين لهم مصلحة مباشرة ببقاء الدولة الريعية الاحتكارية، ولو على حساب بؤس وفقر الشعب. مما يتطلب توافر عدة عوامل في مقدمتها ايمان اصحاب القرار التشريعيين والتنفيذيين باهمية تقليص احتكار الدولة ونقل مهم لاصول وملاكات ومصالح من الدولة الى الشعب.***
كان مجلس الاعمار محاولة مجهَضة لابقاء دولة الجبايات وتخصيص النفط للاعمار والتنمية. لكن العودة اليه ستكون اصعب بكثير من اطلاقه وقتها. فالدولة كانت بسيطة الملاكات والنفقات.. واليوم متخمة بهما ويصعب تجاوزهما، فلابد من حل قابل للتطبيق.. ولعل اجدى الحلول ملكية الشعب للنفط والغاز، بتوزيع موارده للمواطنين. فنستنهض الشعب دون تعطيل الدولة.
نفترض ان الواردات ستكون (90) ترليون ديناراً سنوياً.. وعدد السكان (30) مليون نسمة.. فنوزع الموارد ليحصل كل مواطن على (3) مليون ديناراً سنوياً، نسميه "الدخل الاساس"، مع استمرار الرواتب والمداخيل بوضعها.. اي كالبطاقة التموينية، التي كان تنظيمها وتطبيقها اصعب بظرفها، لكنها صمدت ووفرت الحد الادنى للغذاء، بل ساهمت لاحقاً في الاحصاء والهوية والانتخابات.
1- نقتطع من "الدخل الاساس" ابتداءاً "ضريبة النفط"، ونفترضها (70%).. فتحصل الدولة على (63) ترليون/ديناراً.. مما سيترك للمواطن (900) الف ديناراً سنوياً، اي (75) الف ديناراً شهرياً.. وهو اعلى من خط الفقر بمرتين. وبما ان معدل العائلة عندنا (6) اشخاص فسيكون دخلها المتوسط الشهري الادنى (450) الف ديناراً. وستتكون الموازنة من "ضريبة النفط" وضرائب وواردات الدولة الاخرى، تصرف في التشغيلية والرواتب والامن والخدمات والبنى التحتية والمشاريع الارتكازية والاستثمارية الكبرى.
2- يفتح للمواطنين حسابات مصرفية فتشجع العادة المصرفية.. وهي متطلبات اساسية للتنمية والاحصاء والمحاسبة والضرائبية ومنع الفساد الاجتماعي والرسمي. وسيزيد "الدخل الاساس" الادخار ويوسع الاقراض والاستثمار. وسيزداد الطلب الفعلي، مشجعاً المستثمرين لزيادة المشاريع والعمالة، وبالتالي الجبايات. وستظهر ثلاثة اتجاهات متناقضة لزيادة الميل الحدي لكل من الاستيراد والاستهلاك والادخار.. وسنحتاج لسياسات مناسبة لزيادة الاخير، وتحسين الثاني والتضييق على الاول. فاذا كان العرض الفعلي ملبياً للطلب الفعلي فلا سبب اقتصادي لارتفاع الاسعار، مع معالجة العوامل النفسية والتشريعات والاسواق.
3- يسمح "الدخل الاساس" بترشيد سياسات الدعم وزيادة الجبايات.. ويوفر حقوقاً وفرصاً اوفر للمواطنين.. ويرفع عن الدولة اعباءاً كبيرة ترهقها مالياً وتنظيمياً.
4- ترفع او تخفض "ضريبة النفط" سنوياً حسب الضرورة والحاجة، لنرفع انتاجية الدولة ونقلل استهلاكياتها وهدرها.. ونزيد انتاجية القطاع الاهلي وخدماته ومالكيته للمزيد من العمالة والمشاريع. بدأ الانحراف التاريخي بخطوة خاطئة فوصلنا للدولة الريعية الاحتكارية الاتكالية غير المنتجة.. كذلك فـ"الدخل الاساس" و"ضريبة النفط" خطوة، ترتبط بها تفاصيل كثيرة، لتغيير المسار وقلب علاقة المالكية والانفتاح على دروب الاصلاح والتغيير.***
من واجبات الدولة حماية الوطن والمواطنين وتقديم الخدمة والرعاية لهم. ومواطنو الرعاية قسمان.. مواطنو "الزمانة"، اي من تعطل نشاطه لسبب مزمن، وهو تعبير مستخدم في امهات كتبنا، وما زالوا يستخدمونه في المغرب ويقولون "معاش الزمانة".. ومواطنو العطل المؤقت كالبطالة والمرضى والفقراء والايتام والارامل والعوانس ومن لا معيل له الذين يجب دعمهم ليعودوا لوضع طبيعي او شبهه.
لم نتقدم فيما يخص "الزمانة".. ومع عدم صيانة وتطوير المؤسسات الموجودة فعلاً -على قلتها- كدور العجزة.. والمتقاعدين.. والايتام.. ومن لا معيل له.. وذوي الحاجات الخاصة والتشوهات والامراض التخلقية او البيئية والاجتماعية.. ومع ازدياد معدلات "الزمانة" لكثرة الامراض والاصابات والحروب، فاننا نشهد فجوة حقيقية تزداد اتساعاً.. مما يترك اعداداً كبيرة تحت رحمة المجهول والاستغلال والفساد والتزوير.
اما العطل المؤقت فعامله الاول تراجع نشاطات المجتمع.. لتتحول الدولة الريعية النفطية الى مصدر الرزق شبه المطلق عبر التوظف.. وبالتدريج تراجعت الخبرة والاختبار وصارت الوظيفة تعتمد الشهادة والقدم. فصار الحصول على الوظيفة امنية عظيمة.. اولاً لضيق مجالات العمل خارج الدولة.. ثم لامتياز الموقع وما يوفره من رواتب وفوائد الايفاد والمنح والتقاعد والامتيازات الاعتبارية والسلطوية كالبطاقات والجوازات والمكاتب، وفي احيان كثيرة المادية بسبب تفشي الفساد.. ومع تكدس الدولة بالموظفين تراجعت وتائر العمل لتصل الى اقل من 20 دقيقة لليوم.
فصارت الوظيفة هدفاً لاغلبية يهمها التوظف للاغراض اعلاه، دون كفاءة جدية في العمل او رغبة له. وهو ما افرز امرين على الاقل. اولاً سوء الخدمات وازدياد حالات الفساد.. وثانياً هبوط الطموحات الاجتماعية لتصبح الوظيفة هدفاً اسمى. وتشكلت الضغوط لتجعل المدرسة والجامعة وسيلة لمنح الشهادة اكثر منها وسيلة للعلم والمعرفة والخبرة. فهبط التعليم والكفاءة. فالهدف بات الشهادة والورقة كجواز مرور للوظيفة. ومن لم يسعفه الحظ فالتزوير وسيلته. وبدل ان تبقى الدولة مفتوحة لعموم المواطنين، جاءت هذه الظاهرة لتزيد فساد الحياة السياسية والاجتماعية. فالانقلابات السابقة تصارعت للاستيلاء على دست الحكم وقمم الدولة.. واليوم وبعد ان اصبحت الوظيفة الرزق الاكبر انتقل صراع الاحزاب والجماعات والمافيات الى وظائف الدولة كلها من اعلاها الى ادناها.. لنحاصص بعضنا، او لنطرد بعضنا بعضاً.. كما تطرد الكواسر غيرها لتنفرد بمجالات عيشها الحيوية ولو على حساب الوطن والمواطن والدولة برمتها.***
لا نحتاج كثيراً لاثبات ان الدولة هي اولاً واساساً دولة المسؤول.. فهذه ممارسة قديمة وتاريخية، لم نعش غيرها. فالامن هو اولاً واساساً امن النظام وليس الوطن او المواطن.. والاقتصاد والمصالح هي اولاً واساساً اقتصاد ومصالح الدولة الريعية والاقطاعات الادارية.. والسياسة والاعلام والثقافة وغيرها هي ايضاً لخدمة من يمسك بالنظام من احزاب وشخصيات.. وابسط مثال ما يعيشه المواطن من اهمال واوساخ في مستشفيات الدولة ومدارسها ودوائرها.. ليتغير الحال عند خبر زيارة المسؤول وتبدأ اعمال التنظيف والتلميع وحسن المعاملة. ولا نقصد بالمسؤول شخصاً بذاته بل رجل السلطة بكل مواقعه.. ولا نقصد ان المسؤول هو من يصنع هذا الواقع بالضرورة بل اساسه طبيعة النظام التي ما زالت في جزء كبير منها استمرارية لممارسات الماضي الذي ضحينا كثيراً لتغييرها.سيهون الامر لو كنا امام مسألة تقصير او اولويات، كأن تعطى الاولوية للنظام ومن ثم للمواطنين.. بل المسألة تعارض مصالح.. فامن المسؤول ليس من امن المواطن، بل على حسابه.. ومصلحة المسؤول ليس من مصلحة المواطن، بل نقيضها، وهكذا. بكلمات اخرى ان يخدم المسؤول اولاً امن المواطن يعني امكانية خسارة امنه.. وان يخدم المسؤول مصلحة المواطن يعني تهديد مصالحه ومنافعه. فالدولة الريعية بطبيعتها دولة احتكارية فوقية تقلب الادوار وتقطع الاواصر بين المسؤول والمواطن.. فيتحقق امن الدولة بحماية النظام الذي يديم الريوع.. وتتحقق مصالحه ومفاهيمه وسياساته بما يخدم تجديد الدورة التي بطبيعتها بعيدة عن المواطن. فالكل سيبدو طامعاً بحصة او شراكة تقضم شيئاً من صلاحيات ومصالح المسؤول.. فتحكم البلاد عبر غرف مغلقة لتصبح هي القرار الحقيقي.. فتفرغ محتويات الدستور والقوانين.. وتطوق قرارات المؤسسات المسؤولة وتحرف سياقاتها، بل ويستولى عليها ضمناً او صراحة. وتتطور بوعي او غفلة ممارسات استعلائية.. يتصور فيها المسؤول انه فوق المواطن والقانون والمصلحة العامة والدستور والمحاسبة.. وانه يمتلك تفويضاً لشخصه.. لا لسياساته وبرامجه والتزامات موقعه.. ومدى انصياعه للشعب وخدمته للمواطنين. فلابد من قلب المعادلة.. وانهاء واقع الدولة الريعية والانتقال لدولة المواطنة، اي دولة الجبايات والخدمة العامة.. حيث يعتمد المسؤول على المواطن وليس العكس. حينذاك ستتغير ليس الاولويات فقط، بل ستتغير ايضاً طبيعة العلاقات والنظام.. فنضع الهرم على قاعدته بدل ان يكون مهتزاً متقلباً مهدداً بالسقوط واقفاً على قمته.
https://telegram.me/buratha