الدكتور محمد شريف
لقد بدأت جسور الثقة والتعاون بين الكورد وشيعة العراق تبنى وتتركز دعائمها منذ الفتوى التأريخي لآية الله العظمى السيد محسن الحكيم في بداية ستينات القرن الماضي لصالح الثورة الكوردية، استجابة لرسالة شفهية من القائد الكوردي الخالد مصطفى البارزاني رفعها اليه ثلاثة من رجال الدين الأكراد ، وكانت تلك الفتوى في حينها مظلة انقاذ للشعب الكوردي من حملة ابادة استنفر لها النظام العراقي المدفوع بعقلية بعثية عنصرية شوفينية عام 1963كل ما يملك من أحدث الأسلحة التدميرية، كما كانت اجهاضا للحملة الدعائية التي كان النظام وأدواته يشنونها ضد الثورة الكوردية لتضليل العراقيين بأكاذيب ومفتريات حول اتهام الكورد بالانحراف عن الدين وبالالحاد ، وكادت تشوه نظرة العرب الشيعة اليها لولا هذه الفتوى التي حرمت قتالهم ، فأسست مرحلة فاصلة في علاقات الثقة والرباط الروحي بينهما، لتصبح فيما بعد أساسا لاستقبال كوردستان واحتضانها لمناضلي الشيعة ابان عهود المقاومة ضد الديكتاتورية، ولما تلاه من تعاون تأريخي لاسقاط النظام الديكتاتوري المستبد البائد، وتأسيس عراق اتحادي ديموقراطي ينظم علاقات الحكم فيه دستور، هو خلاصة ما توصل اليه العقل الحضاري المشترك بين الأمم ، وعقد اجتماعي يتلاءم مع طبيعة الشعب العراقي من التنوع في جميع المجالات.فما الذي جعل السيد المالكي وحزبه يتجه بقوة، وعلى عجل، الى هدم هذا الصرح الذي كان ضمانا لأمن العراق وتقدمه؟هل كانوا يظنون أن كل هذا النضال الصعب والملاحم البطولية التي خاضها البيشمركة الكورد والتضحيات الغالية التي قدموها في سبيل هذا الانجاز العظيم، ما كان يهدف الا الى تبديل نظام بنظام ، أو حزب بحزب، أوما كانت وراءه قضية أمة هي ليست بأقل شأنا بكل المعايير من الأمم التي لها صوت يسمع بين الدول والأمم ، وهي ، دون شك، ليست بأقل استحقاقا في حق تقرير المصير أو أي أعتبار دولي آخر؟أنا أعلم أن الأسلوب الأفضل في الأدب الاعلامي هو التقرير لاالاستفهام، وما لجأت الى الاستفهام، الا لأن واقع مايجري في التفرد بالحكم في بغداد وتهميش الآخرين بلغ حدا من التنافر مع الدستور، والتنكر لاتفاقات سابقة ولاحقة مع الكورد وجميع العراقيين، يكاد لا يصدق لغرابته، فما كان يدور بخلد أحد أن ثقافة القائدالبطل الأوحد ، وهي الثقافة التي دمرت حياة العراقيين وأهانت كرامتهم أكثر من نصف قرن، وأعادتهم الى الوراء أكثر من قرن، تنمو من جديد، بحجة هيمنة الدولة المركزية المجسدة في شخص القائد العام، مع أن الدستور ماكان حريصا على ترسيخ أي مبدأ دستوري بمثل ما كان حريصا على اشاعة ثقافة الشعب القائد لا المستبد القائد، أي ثقافة التنوع والفدرالية، ومع أن العراقيين ماذاقوا كل هذه المرارات طوال كل هذه السنوات العجاف الا بسبب المركزية التي أنتجت القائد البطل والضرورة ، فكان لابد، وقد طلعت شمس الحرية ، وتحطم صنم التفرد والاستبداد، من تعويض الشعب العراقي عن سنوات السحق والتهميش والاهمال، ورد الاعتبار لكرامته التي ديست بالغاء حريته وسوقه الى الحروب العبثية والمتاهات دون ارادته. فجاء الدستور معبرا عن هذه الارادة، مقررا لمبادئ حكيمة تحول في حال الالتزام بها دون عودة الديكتاتورية والفاشية ، وليست هذه المبادئ ألغاما في الدستور، كما يصفها أنصار الشمولية والمركزية للحكم، بل هي قواعد لحكم رشيد يحتاجه العراقيون لاستعادة كفاءاتهم وطاقاتهم ، ولاستثمار ثرواتهم الهائلة لاسعاد الشعب ورفاهيته، ولكن الذي يجري منذ مدة، نسف مبرمج للدستور الضامن للديموقراطية والفدرالية.لما تقدم، لايصدق تكييف النظام الحالي بأنه قائم على الدستور لا نصا ولاروحا، بل التكييف الصحيح هو أنه انقلاب على الدستور نصا وروحا، وانقلاب على الشراكة الوطنية، وتنكر لجهود الشعب الكوردي واقليم كوردستان لتحقيق هذه الحرية التي يريدون الاستئثار بها لاقصاء الآخرين من القوى الفاعلة.وما أتى هذا الكلام اعتباطا، أو لمجرد الخصومة السياسية المتوترة حاليا، بل هو مبني على ممارسات للحكومة لاتمت الى الدستور بصلة، بل تضرب عرض الحائط، معايير حضارية للحكم في بلد كالعراق اعتبرها الدستور أساسا للعراق الجديد.ولبيان حقيقة هذا الانقلاب نشير الى أمرين واضحين وضوح الشمس في رابعة النهار، في كل واحد منهما تجد الانفصام واضحا بين الدستور وممارسات الواقع الذي يخالفه.الأمر الأول، هو أن العراق الجديد قائم على التوزيع لا على التجميع، ويريد الحزب الحاكم الآن، أن يقوم على التجميع لا على التوزيع، وهو أي العراق الجديد قائم أيضا على سيادة الشعب لا على سيادة الامة، ويراد أن يقوم من جديد على سيادة الأمة ليقفز عليها القائد الضرورة أو الحزب الحاكم باسم الأمة، ومعلوم أن للشعب مفهوما ديموقراطيا يتساوى فيه الجميع، أما الأمة فذات مفهوم شمولي قد يتجسد في شخص القائد كما كانت الحال في النظم الفاشية والنازية والبعثية . فقد نص الدستور في مادته الأولى على أن جمهورية العراق دولة اتحادية، ومقتضى الدولة الاتحادية انها قائمة على توزيع السلطة والثروة، ومعلوم ان خارطة التوزيع في الدستور تميل لصالح الأقاليم والمحافظات لا لصالح الحكومة الاتحادية التي تسمى الآن أو توصف بالحكومة المركزية ، وهذه التسمية بعينها اعتراف صريح بالانقلاب على الدستور، اذ ماسمح الدستور للحكومة الاتحادية الاببضع اختصاصات ذات شأن في عمل الدولة كالخارجية والمالية وأمور الجنسية والتعداد السكاني ومشروع الموازنة العامة، وتتولى الأقاليم والمحافظات الشؤون الأخرى الخدمية وغيرها،ولكن الواقع هو أن الحكومة الاتحادية لم تعد اتحادية، بل عادت مركزية تحاول اعادة تجميع كل الاختصاصات تحت عباءتها، كما كان الأمر في عهد النظام الديكتاتوري السابق، وان تنقل جلسات الحكومة الاتحادية المركزية من محافظة الى أخرى يأتي ضمن هذا السياق الانقلابي على الدستور، وأما ما تمارسه المحافظات من بعض الصلاحيات فلا يخرج عن نطاق اللامركزية الادارية الضيقة.والدلالة المهمة الاخرى على التوزيع العادل في الدستور هو أنه حرص على أن يشمل توزيع الثروة كل فرد عراقي بشكل عادل، وما سمح لاية جهة أن تتولى التوزيع وفقا لمعايير مرنة يضيع تحتها المواطن الفرد، قد تستغل لحرمانه من حصصه باسم المصلحة العامة مثلا، فقد حسم الدستور الموقف لصالح الفرد العراقي لا الأمة العراقية، فقرر أن يكون توزيع الواردات، وأهمها النفط والغاز، متناسبا مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد. المادة 112 أولا من الدستور.ولأهمية التوزيع العادل للسلطة والثروة في النظام الجديد، ودرأ لمخاطر تسلل الثقافة الشمولية المركزية بحجة هيمنة الدولة والأمة من جديد، شرع الدستور بموجب المادة 105 هيئة عامة مستقلة تضمن هذا التوزيع العادل في كل مناحي حياة العراقيين، فأين هذه الهيئة؟أليس من حق العراقيين أن يسألوا أين حقهم الآن.هذا ما يتعلق بالعراق عموما، أما ما يتعلق بخصوصية اقليم كوردستان والشعب الكوردي، وهو الموضوع الذي لم يفهموه بعد، أو تجاهلوه كما تجاهلوا استحقاقات العراقيين في حياة حرة كريمة لا ينغصها استعلاء قوم على قوم، فحدث عنه ولا حرج، ففي الوقت الذي اعترف الدستور الاتحادي النافذ في المادة 117 بواقع اقليم كوردستان، كما هو هو، اقليما اتحاديا، وهو لم يؤسس أساسا وفقا لأحكام الدستور، كما ستكون الحال لو أسست أقاليم جديدة، تسعى دولة رئيس الوزراء في الحكومة الاتحادية سعيا يكاد يشغل كل همه، رغم كل هذه الهموم العراقية التي تكاد تنوء بحملها الجبال، الى قص أجنحته، وتقليم أظفاره، واجباره بكل الوسائل على الرضوخ لأوامر البيت العالي دون أي اعتبار للدستور ، أولحقيقة ان اقليم كوردستان هو وطن شعب آخر له خصوصيته القومية، وحمل معه هذه الخصوصية حين ألحق بالعراق عند تأسيسه بعد الحرب العالمية الاولى، وحين كون مع الجانب الآخر عراقا اتحاديا مشروطا بالفدرالية والديموقراطية، أي الاحتفاظ بما هو واقع ، وكان عليهم أن يعلموا ويذعنوا لحقيقة أن فرض سياسة استعلائية على اقليم كوردستان في ظل هذا الدستور الضامن لوحدة العراق أو بدون هذا الدستورأصبح من الماضي.ولايليق بهم، وهم أصدقاء أيام الشدة، ونتطلع بصدق الى أن يظلوا أصدقاء كل الايامحاضرا ومستقبلا، في الرخاء والشدة، لا يليق بهم أن يجتروا تراث الفاشية المندحرة للتعامل مع قضية كوردستان.وأخيرا لايحسن لمن عانى الظلم والتهميش أن يظلم، لهذا أظنهم لم يفهموا الموضوع بعد والسلام . الدكتور محمد شريف
https://telegram.me/buratha