بقلم جواد العطار
لا يخفى للمتتبع ، ان احتفالات ملكة بريطانيا باليوبيل الفضي لجلوسها على عرش المملكة المتحدة ، حملت مغزى كبير في ممارسات بهيجة استمرت لايام عدة؛ عبر فيها الشعب البريطاني عن مدى الولاء والشكر والعرفان للملكة اليزابيث الثانية على الستين عاما التي قضتها من حياتها في خدمة بريطانيا منذ اعتلائها العرش عام 1952 . لكن ما لا يعلمه الكثيرون ان الملك او الملكة في هذا البلد؛ مصون وغير مسؤول؛ اي انه لا يحكم ولا حتى يسائل قضائيا عن شؤون الدولة والحكم ، لان سلطة اتخاذ القرار ليس من صلاحياته بل من اختصاص ثلاث هيئات؛ بعيدة كل البعد عنه؛ تشريعية منتخبة ممثلة بالبرلمان وتنفيذية تمثلها الحكومة ورئيس الوزراء (الذي يسمى هناك بالوزير الاول) والقضائية .. مع ضمان الفصل التام بين السلطات الثلاث والتوازن والتعاون بين الاولى والثانية وضمان استقلالية السلطة ( القضائية ) الثالثة عن اية تأثيرات داخلية او خارجية . ان تنازل الملك في بريطانيا عن حقوقه للبرلمان ، لم يأتي من قبيل الصدفة او اعتباطا او بصورة مفاجئة؛ بل جاء نتيجة مخاض وصراع طويل استمر لاكثر من الف عام بين الملك وبطانته من جهة؛ والبرلمان والمنادين بالحقوق الدستورية من جهة اخرى ، انتهت بتقاسم السلطة الفعلية بين مجلسي البرلمان (اللوردات - بطانة الملك الارستقراطية ومجلس العموم ) ومن ثم تولي المجلس الاخير لكافة الصلاحيات باعتباره ممثلا للشعب تاركا للملك ولورداته سلطات بروتوكولية ورمزية اكسبت الملكية احترام وتقدير واهتمام الشعب الانكليزي الذي ظل يقدر لها كمؤسسة؛ لا اشخاص؛ مواقفها التأريخية في التنازل عن السلطة والحكم للشعب ، بشكل انتج افضل واعرق النظم السياسية البرلمانية التي منحت البلاد نوعا من الاستقرار السياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي .. مهد الطريق لبريطانيا؛ منذ اكثر من ثلاثمئة عام؛ لتقود العالم باعتبارها امبراطورية لا تغيب عن مستعمراتها الشمس ، ومن ثم اصطفافها بعد الحرب العالمية الثانية مع الدول الكبرى دائمة العضوية في مجلس الامن . ان نجاح التجربة البرلمانية في بريطانيا دفعت العديد من دول العالم مع مطلع القرن العشرين الماضي وفي منتصفه؛ الى ان تحذو حذوها وتندفع بلا هوادة للاستفادة من هذا النظام ومزاياه المتعددة .. وبالفعل نجحت اغلب الدول في مسعاها الى الدرجة الذي تراجع فيه تطبيق الانظمة الملكية والرئاسية وظهر بديلا لها نظم معدلة من قبيل نظام الملكية الدستورية والنظام شبه الرئاسي او المختلط .ومع مطلع الالفية الثالثة ، اتجه العراق مع التغيير الذي حدث في عام 2003 ، للاستعاضة عن النظام الرئاسي؛ الذي اثبت فشله في ادارة الدولة لاكثر من اربعين عاما؛ بالنظام البرلماني .. وبالفعل تشكلت السلطات الثلاث في اطار العملية الديمقراطية والانتخابية وانطلقت العملية السياسية مع تفاؤل الجميع بان هذا النظام قادر وبلا شك على تجاوز آثار وسلبيات المرحلة الماضية ونقل البلاد الى واحة الاستقرار والتفاعل البناء والمثمر بين مكوناته المختلفة ومؤسساته الجديدة المتعددة .. وتوفير بيئة سياسية مستقرة تقود العراق الى مصاف الدول الافضل والانجح تطبيقا لآليات هذا النظام خصوصا بعد اقرار الدستور الدائم وتصويت الشعب بالموافقة عليه . لكن ، هذا النظام كان متعثرا في العراق ومولدا للازمات وعوامل عدم الاستقرار ، وخلق بيئة غير صالحة للتطور والنمو .. ويبدو ان الخلل ليس في النظام او آلياته بل في التطبيق اولا؛ وفي المحاصصة ثانيا؛ وعقول الساسة ثالثا؛ التي لا تعرف غير السلطة ولا تسعى الا اليها ولا تتعامل الا بها ومعها ... فمثلا من كان سيحتفي بملك او رئيس لا يملك ولا يحكم؛ في العراق .. او في معظم الدول التي على شاكلته ؟؟ كما ان فقدان التوازن والتعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ، رغم ان الثانية نتاج موافقة وتصويت الاولى ، وتراجع البرلمان عن دوره في الرقابة واقرار القوانين المهمة وتشتت الكتل المشكلة له وتضارب مواقفها وتوجهاتها ، وغياب الوسائل الحاسمة لحل الازمات التي وضعها منظروا النظام بداية؛ صمام امان للخروج من هذه الحالات من قبيل السؤال والاستجواب والتحقيق واقتراح ورد القوانين .. اصبح سببا رئيسيا في استمرار الازمات منذ مولد النظام .. واستمرار الازمة الحالية؛ والازمات التي ستولدها او حتى تصاعدها بشكل لافت مؤخرا في دعوات سحب الثقة او حل البرلمان ، في وسيلة لاعادة دورة النظام من جديد عبر آلية الانتخابات وصناديق الاقتراع .ان الحكمة ليس في اعادة دورة النظام البرلماني فحسب او اعادة تشكيل الخارطة السياسية من جديد ، بل في وقفة تأمل تسد الثغرات وتعيد التوازن والتعاون المطلوب بين السلطتين التشريعية والتنفيذية باعتبارهما هيئتين مستقلتين عن بعضهما البعض ، لنستفيد على الاقل من مزايا النظام ونحقق للبلاد استقرارا فقدته .. وهي بامس الحاجة اليه .
https://telegram.me/buratha