* بقلم - جميل ظاهري
اقتضت الحكمة الالهية بقاء الامام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام حياً بعد ثورة كربلاء فكان الشاب الوحيد الذي نجا من المجزرة الرهيبة والفاجعة الدموية الوحشية التي حلَّت بأهل البيت (ع) كي يتمنكن من نقل صورة حقيقية وواضحة وشفافة عن الحوادث والوقائع والمصائب وانتهاك الحرمات المقدسة التي جرت في الطفوف بعاشوراء الامام الحسين (ع) وما جرى فيها.فعاش الامام علي بن الحسين زين العابدين (ع) أقسى فترة من الفترات التي مرَّت على أئمة أهل البيت (ع) وعانى ما عانى وتحمل ما تحمل حيث عاصر بداية قمة الإنحراف الأموي بشكله الفظيع على كل المستويات خاصة الدينية منها ، بأمّ عينه المِحن والبلايا والرزايا التي حلَّت بالاسلام وأهله وأسلافه الغيارى ، وكيف كانت جيوش بني أمية تدخل مسجد رسول الله (ص) في المدينة المنورة وتربط خيلها في المسجد الذي كان منطلقاً للرسالة وأفكارها.وتمكن الامام علي السجاد (ع) في تلك الظروف البالغة الحساسية والخطيرة من العمل على قيادة الحركة الاصلاحية للأمة الاسلامية تلك التي بدأها والده الامام الحسين (ع) وضحى بنفسه وأهله وأصحابه الميامين من أجلها وذلك وفقاً لمقتضيات المصلحة الإسلامية منذ اللحظة الأولى لوصول السبايا الى الكوفة وكانت خطوط عمله التي إنتهجها على الشكل التالي:أولاً: عمل (ع) عبر أساليبه وتعاليمه وأقواله وأدعيته على فضح بني أمية وإسقاط كل الأقنعة التي كانوا يغطون وجوه سياستهم الحاقدة والدموية خلفها وهذا ما يبدو لنا واضحاً وجلياً من خلال خطب الامام (ع) في مسيره من كربلاء الى الكوفة والشام والمدينة.والمتتبّع للأحداث يلاحظ الاختلاف في خطاب الامام علي بن الحسين (ع) بين الكوفة والشام، ففي الكوفة انصبَّت كلماته على مخاطبة ضمائر الناس وذلك لأن أهل العراق يعرفونه ويعرفون أباه الحسين بن علي (ع) ولكنهم لضعف نفوسهم وتحت تأثير الخوف والطمع تخاذلوا عن نصرته لذا نرى أن بني أمية لم يقولوا ب"خارجية" الحسين (ع) وأصحابه في العراق لعلمهم أن هذا اللون من الدعاية لا يأخذ نصيباً من النجاح في بلدٍ يعرف الامام الحسين (ع).وأما في الشام فقد كانت كلمات الامام زين العابدين (ع) منصبَّة على التعريف بالسبايا وأنهم آل الرسول (ص) ثم فضح الحكم الأموي، وتعريته أمام أهل الشام وقد جرت نقاشات متعدّدة بين الامام السجاد (ع) وبعض الناس في الشام تكشف لنا بوضوح جهل الناس وعدم معرفتهم بالامام والسبايا.وفي الجانب الآخر أستعمل الامام السجاد (ع) الدعاء لنشر أهداف الثورة الحسينية الوهاجة واستغلاله لتربية الأمة الاسلامية ودفعها نحو مقارعة الكفر والانحراف والأعوجاج والظلم والطغيان الذي حل بالأمة بعد رحيل الرسول الأعظم (ص) وعانى منه والده وعمه وجده الامام علي بن أبي طالي أمير المؤمنين عليهم السلام أجمعين .فالدعاء ركن ركين، وكهف حصين، وواحة أمان وطمأنينة في الدين الاسلامي المحمدي الأصيل يلجأ إليه الانسان المسلم عندما تداهمه الخطوب، وتنتابه العلل، وتتلبّد أمامه الأجواء فيحسّ بالاختناق في كل لحظة، ويفتش عن المتنفس، ويبحث عن (الإنعاش)، وقد أشار القرآن الكريم الى هذا المعنى حيث قال:"وَإِذا مَسَّ الإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً.." سورة يونس: آية 12.كما أن الأحاديث النبوية الشريفة التي هي تعبير عن روح القرآن الكريم أكدت على أن للدعاء أهدافاً وحكماً كثيرة لو عرفها الانسان لاكتشف كنزاً عظيماً.. اكتشف علاجاً لمشاكل عويصة يعيشها في حياته.. وحلاًّ للمصاعب التي تعترضه.. واكتشف بالتالي شفاءً لما في صدره من الآلام والأدران.وفي طليعة هذه الأحاديث ما روي عن الامام الرضا (ع) عن آبائه عن الرسول الأكرم (ص) أنه قال:"الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض"( بحار الأنوار: ج90، باب فضل الدعاء والحث عليه).إن المؤمن يواجه في حياته مخاطر كثيرة، وذلك بسبب ضعف نفسه، لأن الإنسان خلق من ضعف وركب في ضعف (وَخُلِقَ الإِنْسانُ ضَعِيفاً)، حياته محدودة، وعمره محدود، وعلمه محدود، وأخيراً تحركه في الدنيا محدود.كما أن الدعاء عماد الدين كما أكدته الاحاديث النبوية الشريفة، حيث أن للدين مظهر وجوهر، مظهر الدين هو الصلاة والصيام، والحج.. إلى آخر العبادات.. ولكن ما هو جوهر الدين وعماده؟ إنه الدعاء، لأن جوهر الدين هو اتصال الإنسان بالله، وعماد الدين وهو عروج الإنسان إلى الله، فإن الله سبحانه وتعالى تحدث إلى الإنسان عبر القرآن الكريم، ولكن كيف يتحدث الإنسان مع الله سبحانه؟ إن مناجاة الإنسان مع ربّه هو الدعاء. وصاغ الامام علي بن الحسين (ع) أدعية عالية المضامين بوحي من القرآن الحكيم تعتبر بحق دائرة معارف عليا لجميع المعارف الإلهية، ابتداءً من معرفة الله سبحانه وتعالى ومعرفة أسمائه الحسنى، وطرق التوسل إليه، واستمراراً مع صفات الرسل وانتهاءً بتكريس الصفات الرسالية عند الانسان المسلم كما وردت في الصحيفة السجادية أو ما تسمى صحيفة أهل البيت (ع) .وهنا دعونا نتأمل المقطوعة التالية في التربية الأخلاقية الاسلامية التي وردت في أ؛د أدعية الصحيفة السجادية :"اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واحجُبني عن السرف والازدياد وقوّمني بالبذل والاقتصاد، وعلّمني حسن التقدير واقبضني بلطفك عن التبذير، وأجر من أسباب الحلال أرزاقي، ووجّه في أبواب البرّ إنفاقي وأوزعني من المال ما يحدث إليّ مخيلة، أو تأدّياً إلى بغي، أو ما أتعقب منه طغياناً، اللهم حبّب إلي صحبة الفقراء، وأعنّي على صحبتهم بحسن الصبر، وما زويت عنّي من متاع الدنيا الفانية فاذخره لي في خزائنك الباقية، واجعل ما خوّلتني من حطامها وعجّلت لي من متاعها بلغة إلى جوارك، ووصلةً إلى قربك، وذريعة إلى جنتك، إنك ذو الفضل العظيم وأنت الجواد الكريم".إن التأمل في فقرات هذا الدعاء الرائع يرفع الإنسان أعلى مراتب الشعور الإنساني حيث يشعر المرء بحب الصحبة للفقراء.. والابتعاد عن أخلاق الطغاة.. وبالذات (الطغيان الناشئ من الغنى والثروة). كما يعلمنا الامام زين العابدين (ع) كيف ينبغي أن نصرف المال بدون تبذير. لقد كان واضحاً في عصر الامام السجاد (ع) مدى الخطورة والانهيار الذي بدأ يدبّ في أوصال الأمة المسلمة في كيانها ووجودها الاجتماعي، وذلك إثر الهجوم الواسع النطاق الذي أخذ المفسدون والطواغيت على عاتقهم القيام به. فقد بدأ هؤلاء يشيعون ويروجون الأفكار الهدامة، ويشجعون ألوان المجون والتحلل الأخلاقي، ويخترعون كلّ وسيلة لتدمير وتفكيك البنى الاجتماعية والأسريّة. يدلنا على ذلك، ويشهد عليه ما نقله أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني(ج7،ص6)، وما أورده المسعودي في مروج الذهب(ج3، ص214. وكذلك العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي)، وكذلك كانت عمليات الإفساد الرسمي والحفلات الماجنة، وانتهاك الحرمات نهاراً جهاراً، ممّا ينبئ بعملية (إفساد منظّم) تقف وراءها مؤسسات الدولة. إن من يطّلع على مثل تلك الصور والأرقام يدرك ما كان يجري من (فسادٍ وإفساد) وعلى مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية(العدالة الاجتماعية في الإسلام، سيد قطب) والفكرية والأخلاقية.وليس عسيراً أن نعثر على عشرات الشواهد التي تدلّنا على أن الأدعية السجادية صارت معشوقة ومتبناة من قبل قطاعات واسعة في الأمة الاسلامية. ونظرةً عجل على أسانيد الصحيفة ورواتها وحفظتها(الصحيفة السجادية، تحقيق السيد الموحد الأبطحي) وتناقلها بأمانة ودقة، وبما لم يتوفر مثله للكثير من المأثورات تشير لنا تلك الحقيقة بوضوح وتؤكد مدى النجاح والظفر. أن الامام السجاد (ع) بحكم مسؤوليته الرسالية ولكونه المسؤول الأول في تلك الفترة عن الحفاظ على أصالة الفكر الاسلامي المحمدي ونقائه ثم إيصاله الى الأجيال اللاحقة سليماً معافىً من التشويش والتحريف وبعيداً عن أباطيل الخصوم وتشويهاتهم، سواء منهم من كان يكيد للإسلام (كالمنافقين) أم من كان يتربص الدوائر للانقضاض عليه. إن تلك المسؤولية حملته على استخدام هذه الوسيلة (الدعاء) بلحاظ أنّها فيما تستبطنه من مضامين بعيداً عن أعين الرقباء ووسائل رصدهم العادية. على أنه يقتضي التنبيه أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من بعده وبالأخص ولده الامام الباقر (عليه السلام)، ثم حفيده الامام الصادق (عليه السلام) قد نهضا بدورهما الريادي والقيادي في مجال بث علوم أهل البيت (عليهم السلام) ونشر فقههم ومعارفهم بالوسائل المألوفة والمتاحة. إلا أنه مع ذلك كله حرصوا بدورهم على نقل وترويج أدعية الصحيفة السجادية، ودعوة شيعتهم ومريديهم إلى حفظها والاهتمام بها، لتبقى دائماً وأبداً في كل عصر تدلّهم فيه الخطوب، فيكون الفكر الإسلامي النقي الذي تحمله مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) عرضةً للاضطهاد والتدمير تبقى تلك الصحيفة تحمل (الأمانة) وتصونها.لذا فان الرجوع الى الصحيفة السجادية يعدّ رجوعاً إلى الينابيع الأصيلة والنقية. والبحث في مضامينها الراقية سواء في المجال الفكري والسياسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي، ومحاولة استكشاف المفاهيم.وشهدت فترة حكم عبد الملك بن مروان نوعاً من الراحة القليلة لأهل البيت (ع) حيث حاول تجنّب دماء بني عبد المطلب كما يشير كتابه إلى الحجاج بن يوسف الثقفي إلاَّ أنه سرعان ما تبرَّم من وجود الامام علي بن الحسين (ع) في المدينة المنورة بسبب تنامي خط المعارضة في الأمة، فأرسل إلى واليه على المدينة أمراً باعتقاله وإرساله مثقلاً بالحديد إلى دمشق لارغامه على التخلي عن مهمته الرسالية ولكن قوة الامام(ع) ونفوذه حالت دون تنفيذ خطَّة عبد الملك فعاد الامام زين العابدين (ع) الى حرم الرسول (ص) حتى توفي عبد الملك واستلم الخلافة إبنه الوليد وتوّج أعماله بتدبير خطَّة قتل الامام (ع) ونُفذت هذه الخطة على يد سليمان بن عبد الملك في عهد الوليد من خلال سمّ دسَّه إليه. وأنتقل الامام السجاد (ع) في اليوم الثاني عشر من شهر محرم الحرام سنة 95 للهجرة الى جوار ربه حيث دفن الى جانب عمه الامام الحسن بن علي (ع) في مقبرة بقيع الغردق بالمدينة المنورة .وخير ما نختم به حديثنا عن الصحيفة السجادية ودورها التربوية في الامة هي مقطوعة رائعة من هذه الادعية التي تعلّم المؤمنين ـ كيف ينبغي الانقطاع الى سبحانه وتعالى الله والاستغناء عن الخلق والتذلل لهم!.."اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره ومن معروف أسدي إليّ فلم أشكره، ومن مسيء اعتذر إليّ فلم أعذره، ومن ذي فاقة سلني فلم أوثره ومن حق ذي حق لزمني لمؤمن فلم أوفره ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره، ومن كل إثم عرض لي فلم أهجره" الصحيفة السجادية: 147.
https://telegram.me/buratha