علي بابان وزير التخطيط السابق
مرة أخرى...وبعد نقاشات حادة حول موضوع الإبقاء على البطاقة التموينية أو إلغائها انقسم فيها الرأي العام إلى محاور وأقطاب انتهينا إلى... (لا قرار) ... كشأن الكثير من القضايا الوطنية والهامة التي بقيت معلقة وقبعت في المنطقة الرمادية وهو أسوأ ما يمكن أن يحدث عندما يتم طرح قضية عامة يراد لها الحسم أو القرار.
ربما كان المشهد (مستفزا)للبعض أن يرى (المتخمون ) وهم يفتون في أمر لقمة الفقراء ويقرروا استمرارها أو حجبها ... غير أن ذلك لم يكن المشهد الوحيد (الذي يستفز) فهناك أيضا (المزايدون) الذين يهدفون إلى كسب الشعبية ولا يفكرون إلا بصندوق الانتخاب حتى مع التضحية بالمصالح البعيدة المدى، وهناك من (يتحمس) للإبقاء على البطاقة العتيدة أو لإلغائها دون أن يكلف نفسه عناء الاستعانة بأية حسابات اقتصادية .. أو معطيات إحصائية... أو نظرة مستقبلية.. وهي الأدوات (المفترضة) الوحيدة التي ينبغي أن يستند لها قرار من هذا النوع...
,في الواقع فإن مثل هذا النقاش لا يقتصر على العراق وحده ففي كل دول العالم الثالث تقريبا ومنها الدول العربية تدور مثل هذه الجدالات التي تتمحور حول
سؤال ... هل ينبغي تخفيض الدعم الحكومي المتعدد الصور والأشكال أو إلغائه من أجل إصلاح أوضاع الميزانيات العامة وتوفير المال لغرض الاستثمار وخلق فرص العمل... ؟؟ .
وبينما يحتشد (المزايدون) و(طلاب الشعبية) للإبقاء على الدعم يتوارى المنادون بتخفيض الدعم أو إلغائه ويلوذون بصمتهم خوفا من مشاعر العامة قصيرة النظر وتحسبا من ردود الأفعال الجاهلة والمحرضة..!!
وإذ يعجز أنصار إبقاء الدعم إلى ما لا نهاية عن الإجابة على سؤال... إلى أين نمضي..؟ وإلى متى يبقى الحال على ما هو عليه من ضعف الاقتصاد واتساع دائرة الفقر في المجتمع..؟؟
فإن الفريق الآخر المتبني لتقليص الدعم لا يستطيع الدفاع عن حججه غالبا وتقديم البديل الواضح من خلال الدعوة لتعزيز إنتاجية المجتمع وتفعيل قطاعات الاقتصاد الحقيقيباعتبار ذلك هو الوصفة المضمونة لتقليص مساحات الفقر وتعافي الاقتصاد و مما يزيد من ضعف حجة هذا الفريق هو سوء الأداء الاقتصادي لتلك الدول وشيوع الفساد وانعدام الكفاءة لدى من يمسك بالملف الاقتصادي فيها وهذا يرسخ صورة الغني الذي يسطو على لقمة الفقراء ورغيف خبزهم ليزداد تخمة وفسادا...وما لم تتغير هذه (الصورة النمطية) التي تتكرس في أذهان العامة فإن جهود الإصلاح الاقتصادي ستبقى تواجه مقاومة عنيفة من الشرائح الاجتماعية المحرومة والأقل حظا...
هنالك العديد من الإشكاليات التي يواجهها متخذو القرارات الاقتصادية ذات المساس بحياة الجماهير العريضة في الدول النامية، ففي تلك الدول يكون مستوى الوعي العام منخفضا وتنحصر الثقافة الاقتصادية في شريحة محدودة للغاية ولا ينظر المواطن إلى مصلحته إلا من خلال تلبية احتياجاته اليومية مسقطا أي نظرة مستقبلية وحيث يسود قصر النظر والحسابات الظرفية على ما سواها وفي هكذا مجتمعات نجد القوى السياسية تسعى إلى (إثبات الذات)..!!وحصد المكاسب بركوب الموجات الشعبية واستغلال مشاعر الطبقات العريضة حتى ولو كان ذلك يقتضي حرف الحقائق وتخدير الجماهير وإشاعة المعلومة الخاطئة، وغالبا ما يتم تضليل الرأي العام وصرف أنظاره عن مصالحه الحقيقية والبعيدة المدى من خلال دغدغة مشاعره بإرضاء احتياجاته اليومية والعاجلة وفي أجواء كهذه يصبح هدف العديد من القيادات السياسية والاجتماعية أن يفوز بلقب (بطل الفقراء والمحرومين) والمدافع عن حقوقهم متغافلا عن أن مهمة السياسي الراشد والوطني الحقيقي هو أن يقوم برسالة(الوعي) وتبني (الموقف الصحيح) مهما كان الثمن المدفوع إزاء ذلك وليس مسايرة الجماهير بما هو خاطئ أو غير سليم، كما أن الوجه الآخر لهذه الإشكالية تتمثل في أن العديد من سياسات الإصلاح الاقتصادي يمكن وصفها بأنها ليست (سياسات جماهيرية)وأنها قد تبدو (في ظاهرها) وكأنها مصممة ضد الطبقات الفقيرة والمحرومة في المجتمع، فالفقراء في غالب الأحيان هم من يدفعون ثمنها على المدى القصير( رغم أنهم في آخر المطاف أفضل من يستفيد منها ) لأنها إن طبقت بنزاهة وكفاءة تلغي حالة الفقر والعوز لديهم وتحولهم إلى منتجين حقيقيين في اقتصاديات مزدهرة لا يحتاجون بعدها إلى الدعم والإحسان لا من يد الدولة ولا من يد غيرها، وفيما تحتاج سياسات الإصلاح الاقتصادي لبعض الوقت حتى تؤتي ثمارها فإن سياسات الدعم تتعاطى مع الاحتياجات الآنية ومعلوم لمن يكون انحياز المواطن عندها تطرح عليه المفاضلة بينهما..!!
من قال نريد إلغاء التموينية ثم صمت فقد قال نصف الحقيقية.. وأنصاف الحقائق قد تؤدي إلى تضليل من يستمعها ..والأجدر بهؤلاء أن يردفوا دعوتهم بالإشارة إلى الموضع الذي يريدون أن يضعوا فيهالمال الذي سيتم توفيره من إلغاء البطاقة .. وأن يفصلوا في أمر البديل ويؤكدوا بأن هذا الإلغاء ليس قرارا مجتزأ أو أحاديا بل هو جزء من حزمة إصلاح اقتصادي تهدف إلى بناء مجتمع منتج يستغني أفراده عن تخصيصات البطاقة .
أما المنادون بالإبقاء على البطاقة التموينية فعليهم أن يجيبوا عن أسئلة كثيرة .. فليجدوا لنا دولة واحدة أفلحت فيها مشاريع الدعم الحكومي في تقليص مساحات الفقر أو إلغائه..؟ بل ليجدوا لنا دولة واحدة لم يتسع فيها الفقر والبطالة مع استمرار مشاريع الدعم وإهمال المشاريع الإنتاجية ..؟ كم صرفت الدولة على البطاقة التموينية طيلة الأعوام العشر المنصرمة..؟؟ وكم ينبغي لنا أن نصرف خلال العشرة أو العشرين سنة القادمة آخذين بنظر الاعتبار زيادة عدد السكان وجفاف الأنهار والتصحر الذي يفتك بالأرض العراقية منذ سنوات..؟ .. علينا أن نرسم خطا بيانيا يوضح استهلاك العراقيين من الغذاء...والفاتورة النقدية التي ستدفع لهذا الاستهلاك ... وعلينا أن نقارن هذه الفاتورة(الكارثية) بعائدات النفط المتوقعة لهذه الفترة وهل ستكون هذه العائدات كافية فعلا لتغطية تلك الاحتياجات على افتراض أن الدولة ستصرف كل عائدات النفط لإطعام العراقيين وتغذيتهم دون أن تبني لهم مشافي أو جامعات أو تعبد لهمالطرق وبعد أن نكون قد نسينا تماما مفردتي(مصنع) أو (مزرعة)..!!
أسعار الغذاء في العالم تواصل الارتفاع منذ سنوات وكل التوقعات تشير إلى أنها ستبلغ مستويات قياسية خلال العقود المقبلة بسبب زيادة السكان في العالم والتغييرات البيئية الهائلة التي قلصت الزراعة في كثير من الدول وتكفي موجة حر في الولايات المتحدة أو موسم جفاف في روسيا حتى تلتهب أسعار الغذاء في العالم، والمفارقة الملفتة للنظر تتمثل في أننا لا نستطيع إقناع النفس بارتفاع أسعار النفط فهذا الارتفاع إن حصل سيؤدي إلى زيادة ربما أكبر بأسعار الغذاء لوجود علاقة بين السعرين وسيتجه العالم إلى إنتاج الوقود الحيوي من الذرة وغيرها وهذا أيضا يعني قفزات في أسعار المواد الغذائية، وبالطبع لا أحد يستطيع التكهن بتقلبات أسعار النفط وماذا سيحل لعملة الدولار التي يسعر بها النفط أو متى سيجد العالم البدائل التي يستغني بها عن هذه السلعة مع الإدراك أن النفط سلعة ناضبة لكن الجوع والحاجة للطعام لن تنضب خصوصا في عراق الخمسين أو الستين مليونا من البشر..!!
لم يجهد المعترضون على قرار إلغاء البطاقة التموينية أنفسهم ليقولوا لنا كم سيكون حجم (الفجوة الغذائية) في العراق بعد أن يصبح دجلة والفرات سواقي ضئيلة شاحبة اللون وبعد أن تكتسي أرضنا بصفرة التصحر ويخرج العراقيون من بيوتهم وقد غطوا أنوفهم بغطاء يقيهم موجات الغبار تماما كما يفعل الموريتانيون .. أو الطوارق..!!
كم سيتبقى من موازنة الدولة العراقية بعد أن يصبح حجم البطاقة التموينية (20) أو (30) مليار دولار فيما هي تبلغ اليوم بحدود العشرة مليارات من الدولارات..؟؟؟ .. وكم سننفق حينها على الخدمات ولا نقول على (إحياء الزراعة) .. أو (إقامة الصناعة) ..!! لأن الصناعة والزراعة وقتها ستكون شيئا من أطلال الماضي الذي تؤلف حوله قصائد الرثاء... حتى ( البطاقة التموينية العتيدة) التي يتحمس لها البعض اليوم لن نجد في الغد من يستطيع تغطية تكلفتها إذا استمرت الدولة العراقية بنمط الإنفاق الحالي ولا نريد أن نقول بنمط التنمية القائم...
ما يقارب الستين مليار من الدولارات أنفقتها الدولة على البطاقة التموينية منذ عام 2003 والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ...
ما الذي كانت لتكون عليه صورة العراق وأوضاعه لو وجهت هذه المليارات لبناء صناعة وطنية ... أو إحياء الزراعة العراقية ... وتم استخدام تلك الأموال بكفاءة ووضعت في مكانها الصحيح ...؟ .. وضع خطا تحت عبارة (استخدام الأموال بكفاءة) و (وضعها في المكان الصحيح..)..!!
ليس من الرشد أبدا أن تتحول الدولة العراقية إلى (تكية) .. أو أن يصبح مواطنوها (تنابلة السلطان) ولكن قبل هذا من حق العراقي أن يطالب بفرصة العمل اللائقة وبحقه في التنمية البشرية والإنسانية بكل صورها وأشكالها.. قبل أن يأتي اليوم الذي تعجز فيه (التكية) حتى عن (إطعام تنابلها)... وليس من الحكمة أن نعبد (طوطما) اسمه البطاقة التموينية فيما زراعاتنا وصناعاتنا تتدهور حد التلاشي والانقراض عاما بعد عام..!!
حيثما تظهر مشاريع (الدعم الحكومي وبهذا الحجم الكبير) فأعلم أن هناك تعثرا في التنمية وفشلا في جهودها ...فالنموذج التنموي الناجح هو الذي يلغي مساحات الفقر في المجتمع ويقلصها وليس هو النموذج الذي يقدم لها المسكنات ويضمد جروحها متغافلا عن عللها الحقيقية..!!
ودائما عندما ينحصر الجدال بين خياري ... بقاء الدعم أو رفعه.. فاعلم أن هناك قصورا في الثقافة الاقتصادية وضيقا في آفاقها لأن ذلك يؤشر إلى ابتعاد النقاش عن قضيته المركزية والتي يجب أن تكون... (هل نحن نتبع طريقا سليما في التنمية والبناء الاقتصادي أم لا)..؟؟
ودعنا نطرح سؤالا ... لماذا توجد (بطاقة تموينية ) أصلا في بلد بثراء العراق..؟؟ ألا يعد ذلك دليلا على وجود خلل ما ..؟؟ أو ليس التصدي لذلك الخلل ووضع اليد على موطن العلة الحقيقية هو (الأجدر)بدلا من تقديم العلاج المسكن المؤقت..؟؟
وردفي الحديث النبوي عن النبي صلى الله عليه وسلم(لأن يأخذ أحدكم "حبلا" فيأخذ حزمة من حطب فيبيع فيكف الله به وجهه خير من أن يسأل الناس أعطي أم منع..).
هذا التوجيه النبوي يلخص منهج الإسلام والنبوة في التنمية الاقتصادية والبشرية على حد سواء، فإذا أردت أن تسد حاجة إنسان وتداوي فقره فعليك أن تحوله إنسانا منتجا... وإذا أرادت دولة أن ترتقي بأوضاع مواطنيها فعليها ن توفر لهم (أدوات الإنتاج) و (فرص العمل) وعندما تكون المفاضلة بين أن تقدم إحسانا أو أداة إنتاج فإن الخيار الإسلامي هو لصالح (أداة الإنتاج) بكل حسم ووضوح...
هذه هي إستراتيجية محمد بن عبد الله عليه وآله الصلاة والسلام... الإنسان المنتج المبدع الذي استحق الخلافة في الأرض من خلال إعمارها والكدح فيها... إنها (الإستراتيجية الأكثر رحمة بالفقراء..)لأنها لا تطعم الإنسان اليوم لتجيعه أو تجيع عياله في الغد... فليس من الحكمة والدين أن نبيع مستقبلنا مقابل احتياجات يومنا... ولأن القرآن يطالبنا (ولتنظر نفس ما قدمت لغد ..) ... ولقد جسدت التجربة الإنسانية في نضوجها لاحقا مثلا رددته الثقافتين الصينية والهندية معا... وهذا المثل يقول (أعطه شبكة... ولا تعطه سمكة..) وهو لا يختلف في مضمونه عن التوجيه النبوي فيما عدا أن الأخير فيه زيادة مرتبطة بالكرامة الإنسانية للمسلم ( فيكف الله به وجهه خير من أن يسأل الناس أعطي أم منع..).
طبعا ... في كل مجتمع هنالك شرائح من الفئات العاجزة عن العمل وتحصيل الرزق وقطاعات ضعيفة من الأرامل والأيتام والشيوخ وغيرهم وواجب الدولة بالتأكيد أن تغنيهم وتوفر لهم الحياة الكريمة ومن يدرس الفقه الإسلامي يجد أن أبوابه مليئة بتفاصيل الأحكام التي تتناول رعاية هذه الشرائح ومسؤولية الدولة المسلمة والحاكم المسلم في ذلك وبما يتفوق على أرفع ما سجلته التجارب البشرية الحديثة في ميادين الضمان الاجتماعي وكفالة الدولة للطبقات الضعيفة والمحرومة .
نحن في العراق مطالبون بنظام شامل للرعاية والضمان الاجتماعي يمتد بمظلته ليشمل جميع العراقيين بدون استثناء ومن الميلاد حتى الوفاة دون أن يقتصر على موظفي الدولة .. هذا النظام سيكون بديلا عصريا متطورا للبطاقة التموينية ... وسيقوم هذا البديل في خطوطه العريضة على(إصلاح النظم التقاعدية الحالية- إلغاء نظام المعونة الاجتماعية وضم تخصيصاته للنظام الجديد- تشريع قانون للتأمين الصحي وتطوير أشكال الرعاية الطبية الحكومية -إلزامية التعليم وتقديم قروض التعليم في سنوات لاحقة من الدراسة - ضمانات تأمينية حكومية ضد العجز والبطالة - إصلاح النظام الضريبي بشكل جذري- تسعير الخدمات الحكومية..) كما يقوم على بنود إضافية أخرى مع الإشارة والتأكيد على أن (مشروع الضمان الوطني الشامل) سيكون جزءا من خطة نهوض اقتصادي جذري وإصلاح حكومي واسع يجد مصادره التمويلية الذاتية ولن يكون عبئا على الموازنة العامة بأي شكل من الأشكال ، سداه ... ولحمته تتمثل في سيادة القيم الإنتاجية للفرد والمجتمع العراقي والمبدأ الأساسي الذي يقوم عليه هو أن على الدولة أن تجتهد في خلق فرص العمل ضمن بيئة إنتاجية فاعلة وأن تجعل من ذلك مدخلها الطبيعي لمعالجة أوضاع الاقتصاد وتجفيف مساحات الحرمان ومنابعه في المجتمع العراقي حيثما وجدت.
علي بابان وزير التخطيط السابق
https://telegram.me/buratha