بقلم سماحة الشيخ جلال الدين الصغير
أفكار بلا عواطف (3)
كيف نحلل الواقع من دون أن نخدع انفسنا؟
كي تعالج المريض لا بد من إقناعه بأنه مريض، لكي يكون في مستوى الاستعداد لاستحقاقات العلاج، ومن دون ذلك فإنه سيكون أشد على نفسه من المرض نفسه، وغالبية الشعوب والأمم من دون أن تشخّص عللها وواقعها بما يحويه من إمكانات وإستعدادات ومعوقات وعراقيل بشكل دقيق، فإنها لا تتمكن من خوض معركة النجاة من براثن الأمراض التي تفتك بالحضارة، فهي إن نجت من معركة الاستئصال فإنها في الغالب تخضع لشرائط التبعية للحضارة المنافسة، وتبقى تدفع ضرائب هذه التبعية بالكثير من دماء وعرق وثروات أبنائها، وبالعادة تسعى الحضارات المستعبدة للشعوب كي تبقي هذه الشعوب مخدرة لتوهمها بأنها بعيدة عن المرض، وتخلط عليها صور واقعها بحيث لا ترى إلّا ما يمكن أن يقنّعها بالرضى بحالة التبعية والإنصهار في النموذج الحضاري الوافد نتيجة الاستعباد.
وعليه فإن أي عملية علاج تحاول أن تقفز على حالة التشخيص تبقى في احسن أحوالها كمن يبني على أرض مالحة، لا يعرف متى تهوي به، مما يستلزم القيام بتحليل جاد ومسؤول للواقع بكل حلاوته ومراراته، وتحسب فيه الإمكانات والمعوقات بكل وفرتها ونقصانها، وهذه المهمة يجب أن تتوخى الحذر من الوقوع بأفخاخ التحاليل التي تحاول أن تبعد الأنظار عن مكامن القوة الحقيقية، وعن مواطن الضعف الأساسية، وهذه أفخاخ يتعدد صانعوها، ولكنها تبقى واحدة من أهم المعوقات أمام أية نهضة.
ففي غالب الأحيان تضيع الحقيقة وتتشوّه الصورة ويختلط الغث بالسمين والأخضر باليابس والصالح بالطالح، حينما يدخل الإنسان في خضم الحياة الاجتماعية في كل صورها سياسية كانت أو اقتصادية، قانونية كانت أو أخلاقية، فكرية كانت أو عملية، ثورية راديكالية كانت أو ليبرالية محافظة، فلا يعود المرء ليبصر بشكل دقيق ما هي حقائق الأشياء من باطلها؟ ولا إلى أين يتجه به هذا الكم الهائل من مفردات الحراك الاجتماعي؟ وما هي المحصلة العملية التي سيجنيها من دوره في هذا الخضم؟!
فقد يتحمّس المرء لأعمال هي في عين الوقت التي يريد عدوه أن يتحمّس لها لكي يقضي عليه، كالقيد المتحرك الذي كلما أردت الخلاص منه اشتد ضغطه على يديك، وكالرمال المتحركة التي كلما حاولت النجاة منها كلما ارتكست فيها أكثر ولربما قدتها لكي تبتلعك بشكل أكبر، وما من شك أن صاحب القيد لا يريد الإضرار بنفسه حينما يحرك قيده في معصمه، كما أنه ما من ريب في أن الغاطس في الرمال لا يريد لنفسه الاختناق تحت الرمال حينما يسعى لكي يخرج من كبوته فيها، مما يؤكد علينا حقيقة أن نزعة النجاة الفطرية في الإنسان والموضوعية في المجتمع، ليست بمحضها كافية لكي تكون هي المنجية، كما وأن الرغبة في الخلاص من الواقع المزري ليست هي الكفيلة بأن تكون هي المخلّصة، ناهيك عن أن النوايا الطيبة وحدها لن تخلق واقعاً طيباً.
وكلما تعقدّت الحياة الاجتماعية كلما إزدادت عقد الرؤية الواضحة، لأن التعقيد هو التشابك بين الصور المختلفة والتقديرات المتباينة، وحينما تتشابك الألوان الزاهية تفقد زهوها وتتحول إلى شيء آخر، فالناصع البياض حينما تخلطه بالأسود القاتم لا يعود بالإمكان أن تفرق بين الخطوط الفاصلة في داخل اللون الرمادي الناتج منهما، اللهم إلا أن تستعين بأدوات خاصة للفرز والتفريق، وهذه الأدوات لا قيمة لها إن لم تعتمد على خوارزميات رياضية بالغة في الدقة لكي تستطيع أن تؤدي عملها، وهذه الخوارزميات لا يمكن لها أن تكون دقيقة إن لم تخرج من عقل لا تتشابك لديه الخيوط، ولا تختلط عليه التفاصيل، وإنما بالعكس يخرج من التفاصيل الكثيرة المبادئ العامة، ويجيد مراقبة المبادئ العامة لكي يقرر أي التفاصيل التي ستنتجها عملية التلفيق بين الألوان، مع احتفاظه المسبّق بالقدرة على رؤية اللون الواحد بفردانيته التي لا يشترك بها مع أي لون آخر، ومثل هذا العقل لا يمكن وجوده إلا من خلال منظومة فكرية متكاملة تتسق فيها الأفكار وتتناغم ما بين المنشأ وبين النتيجة.
ولست هنا في صدد التحدّث عن الأيديولوجية الواحدة ـ وإن كنت مؤمناً بضرورتها وأحقية الالتزام بهاـ ولكن التحدّث عن الواقع لا بد من أن يقترن بعملية عزل بين ما يريده الأيديولوجي، وبين ما هو كائن على الأرض، وكما أن الركون إلى هذا الواقع يعني الركود والتوقف، كذلك البقاء في عالم التجريد الأيديولوجي لا يعني افساح المجال للركود فحسب، بل والرضوخ لاشتراطات هذا الواقع، ولكن هذا العزل يجب أن يتسم بوحدة موضوعية بكل مستلزماتها من أجل رؤية الخط الواصل ما بين ما يريده الأيديولوجي وبين ما يوجد في الواقع المعاش، فالعقائدي حينما يريد الهدى للمجتمع على سبيل المثال، لا يمكنه أن يقسر المجتمع على الإلتزام بهذا الهدى بأي نمط من أنماط القهر الإرادي، وحتى لو اختفت العناصر المضادة للهدى من الشارع العام، غير أنها سرعان ما ستتسرطن في داخل خبايا الأزقة، ثم ستخرج إلى الشارع مع أول فرصة لها ولكن بشراسة وإصرار أكبر، ومن دون أن يرى مكامن الضلال وأسبابه وعناصر قوته والحواضن التي يترعرع فيها والمغذيات التي تغذيه، لا يمكنه أن يبدأ رحلة العلاج التي قد تحتاج إلى أجيال عديدة وأزمان مديدة، وهذه الرحلة لا يمكن لها أن تنطلق من دون رؤية الأفق البعيد الذي يطمح الأيديولوجي في الوصول إليه، ومجرد الرؤية وحدها لن تكفي من دون أن يضع في حسبانه كل أنواع تعرجات الطريق والتواءاته مصحوبة بآليات المعالجة والاحتواء لها، وهي مهما كانت؛ فإنها تبقى تعرجات تصاحب أي مسيرة اجتماعية.
وسلفاً أقول بأني لست من دعاة الفلسفة التفكيكية (De Constructivism) التي ترى ضرورة فصل مسارات القضايا عن بعضها بدعوى أن كل قضية لها فردانية خاصة بها، وهذا الأمر وإن كان يبدو محقاً للوهلة الأولى، إلّا أنه ينطوي على خداع كبير أو سذاجة مفرطة، لأن القضايا وإن كانت لها خصوصياتها الذاتية، إلّا أنها في نفس الوقت لها هويتها العامة وترابطها العام مع مختلف القضايا، فأي حدث بسيط جداً يمكن أن يقودك لسلسلة كبيرة تدخل في أعماق غائرة في أسّ الواقع الذي تحياه، فعلى سبيل المثال قد يحلو لك أن تشرب قهوة النسكافيه، سواء في المقهى أو في البيت، وهو أمر قد يبدو للوهلة الأولى حدثاً مستقلاً عن غيره، إلّا أنك في الواقع تحرك أبنية كثيرة وإن كنت لا تراها، وأي تحليل يتسم بالموضوعية والدقة سوف يربطك بالسوق المحلي ثم العالمي للنسكافيه، وهو بشكل تلقائي يربطك بثلاثة أسواق أساسية أحدهما مزارع القهوة والثاني بسوق الإعلان، والثالث شركات التسويق، ولك من بعد ذلك أن تجد الترابط الكبير لهذه الأسواق مع أسواق وعوالم كثيرة جداً، ولا يعني أني بذلك أدعو إلى البنيوية الفلسفية (Structuralism) التي قامت على مناهضتها التفكيكية الفلسفية، لأني أيضاً أؤمن بأن كل ظاهرة لها هويتها المستقلة وإن ارتبطت بغيرها في المسارات العامة، وهذه الهوية لا يمكن الحصول عليها إلّا من خلال ملاحقة جذورها الفكرية، والغرض من كل ذلك أن الإغراق في اتجاه واحد يمنعنا من رؤية بقية الإتجاهات، وحيث أن القضايا لا يمكن تفسيرها بالعامل الواحد، لذلك نعتقد أن التفكيكية أو البنيوية أفرطتا في جانب وفرطتا في جانب آخر.
ولا أؤمن في نفس الوقت بالاتجاه التوفيقي الذي حاول أن يأخذ من هذا اللون الفكري ضغثاً، ومن ذاك ضغث آخر، وهي المحاولات التي نادى بها أكثر من مفكر أبّان خمسينات وستينات القرن الماضي، وحاولوا أن يجمعوا ما بين مقولتي الأصالة والمعاصرة، فأوجدوا لأنفسهم ودعوا غيرهم لخليط هجين من الأفكار، فلا هم احتفظوا بالأصالة، ولا هم أمّنوا المعاصرة!! فالأصالة مرتبطة بمنظومة فكرية، والمعاصرة قائمة على منظومة أخرى، والخلط بينهما إنما هو خلط في بعض الأحيان بين منظومات فكرية تسير بخطوط أفقية لا بخطوط طولية، فالخطوط الطولية تلتقي إما بتأخر هذا أو بتقدم ذاك، ولكن الخطوط الأفقية يبقى واحدها في عالم مستقل عن الآخر مهما تقدم هذا أو تأخر ذاك، وقطعاً لست هنا في صدد الحكم للأصالة على المعاصرة، كما أنني لا أريد أن أحكم للمعاصرة على الأصالة، ولا أدّعي انهما لا يلتقيان، فالمنظومة التي تؤمن بما يفرزه الواقع المعاصر وينتجه الوضع القائم، وتحاول أن تقنع الإنسان أن يتكيّف معه ويساير اشتراطاته وضغوطه، وإن بدا بلهجة ثورية تدعي الانتفاض ضد هذا الواقع كما ادعت الفلسفة الوجودية (Existentialism)بكل أرديتها دينية كانت أو إلحادية، أو تلك التي تطالب بالثورة عليه سعياً وراء مستقبل مقرر له حتمياً سلفاً كما كانت تعده به الفلسفة الماركسية ((Marxism، أو تلك التي طالبت بالإنحناء أمام طغيانه وبلهجة مبتذلة كما هو حال الاتجاهات البراغماتية (Pragmatism)، لا يمكن أن تتوافق مع منظومة تنظّر للواقع من خارجه كما هو الحال في الفلسفات الدينية مثلاً، بمعزل عن حقيقة ارتباطها بالأصيل مما هو ديني أو بالدخيل الطارئ عليه مما ألبس عنوة لباس الدين، فكلها تدعي أنها فلسفات ربانية تريد للواقع أن يسير وفق مسار خطط له الرب، وبالتالي فإن التخطيط له جاء من خارج الواقع، ولهذا فهي في الكثير من الأحيان لديها دعوى الانتفاض على الواقع، ولديها روح الممانعة معه، وقد يبلغ ببعضها حد التطرف فتغلو في هذه الممانعة فترفض الواقع بكل ما فيه بدعوى أن المعاصرة أجنبية عن الدين كما هو الحال في الحركات الرهبانية أو التكفيرية، وبعضها تتماهى فيها روح الممانعة هذه فتخلط ما بين التنظير وما بين اشتراطات الواقع فمنها من يخضع للواقع كما حصل مع المسيحية واليهودية، ومنها من يبقى في حالة التأبّي والممانعة ولكن بسجال تتباين وتائره بين الرفض وبين التطبيع ولكن دون القبول والرضوخ.
إن أية عملية تحليل للواقع يجب أن تبتعد عن نظرية العامل الواحد، ولكنها يجب أن تاخذ كل عامل بجدية أيضاً، وتتعامل معه بعنوانه شريكاً في صياغة هذا الواقع، فالذين نادوا بنظرية العامل الاقتصادي وهيمنته على كل شيء كما فعل الماركسيون أخطأوا وأصابوا في آن واحد، فقد أخطأؤا بتعميم التفسير بالعامل الاقتصادي، ولكنهم أصابوا حينما جعلوه مما يجب أن يلحظ في تفسير الواقع، والذين تبنوا نظرية عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد الخاصة (S. Freud) باعتبار العامل الجنسي هو المفسّر الوحيد للواقع وهو الذي يقف وراء السلوك الفردي والاجتماعي، هم أيضاً أصابوا وأخطأوا فالجنس أحد المفسرات للواقع، ولكنه ليس هو كل التفسير، والذين تبنوا نظرية العالم البيولوجي تشارلز داروين (Charles Darwin) في التطور والصراع البيولوجي لكي يعمموه على الحياة الاجتماعية كما فعل عالم الاجتماع هربرت سبنسر (Herbert Spencer) هم على نفس الشاكلة، وهكذا بقية الذين حاولوا فهم العالم من خلال بعد واحد بما فيهم بعض التيارات الدينية التي حاولت أن تجعل الدين هو التفسير الوحيد في حركة الأمم مع حظر على كافة العوامل الأخرى، فالواقع هو خليط متشابك من الفكر الذي يتحرك في عقول الفرد والمجتمع، وطبيعة النوازع الإنسانية، ومقدار الإمكانات المادية والطبيعية، وحركة الوقائع الاجتماعية، وما ينتج من الجميع من علاقات بين العناصر الأساسية التي تشكل هذا الواقع، وأعني بذلك الإنسان كذات، والإنسان كجماعة، والطبيعة ومواردها، ورب هذه الخلائق، وأي مبالغة في وصف أحد هذه العناصر سيؤدي إلى نتائج خاطئة، وبالتالي إلى ديمومة رحلة العذاب الإنساني.
كما أن أية عملية تحليل لهذا الواقع يجب أن تكتشف المحرك الحقيقي لهذا الواقع، لأننا قد نضع أنفسنا في وسط دوامة دون أن نعرف أن الدوامة هي التي تحركنا رغم أننا نحسب أننا نحن من نتحرك، ونبتدأ بوضع خيارات نتصور أنها من عندياتنا، ولكنها في واقع الحال استجابة لاستحقاقات كوننا في داخل الدوامة ليس إلا، وهو الأمر الذي نراه جلياً في الفلسفة الأوربية من بعد الثورة الفرنسية (1789) والتي مهما بالغنا في وصفها والإطناب بالإشادة بها، إلا أن أيّة عملية تشريح دقيقة لمبتغيات هذه الفلسفة ومراميها، وطبيعة الدوافع الخفية التي تكمن خلفها، والنتائج العملية التي تتوخاها، سيجعلنا ننتهي مباشرة إلى انها ليست أكثر من نتاج للتنظير لاشتراطات النظام السياسي وتبرير استحقاقات الواقع الذي يريده، وأي تحليل جاد لهذا النظام سيجد أن الشركات الرأسمالية الكبرى هي من يمسك بخيوط هذا النظام ويحركه ويوجهه، حتى وإن تلفّع شكله برداء الديمقراطية، ومن ثم ليوصلنا بداهة إلى أن حركة هؤلاء الفلاسفة بوعي ومن دونه إنما كانت استجابة لما تريده هذه الشركات تحديداً، فهي مهما تشعبت تبقى تروّج لكون الفكر من نتاج الواقع الاجتماعي وانعكاس له، وليست الماركسية في مناداتها بهذا المبدأ بفارقة من حيث النتيجة مع بقية فلسفات تلك المرحلة، وقد يتصور البعض أن ذلك يمثل واقعية هؤلاء الفلاسفة ومدى تلاصقهم مع الواقع وتلبيتهم لحاجاته، ومعرفة من يمسك بهذا الواقع هو الذي يجعل اصبع الاتهام يوجه لنفس هذه الواقعية، ففرق بين أن تلاصق الواقع لتكتشف علله وأمراضه ومكامن القوة والضعف فيه، وبين أن تكون مبرراً له ومسوّغاً لما فيه.
إن قراءة متأنية لفلسفة نيتشه سنجد أنها كانت نتاجاً لما أرادته الرأسمالية الألمانية تحديداً من أجل صناعة الرجل القوي، وأي قراءة لتوماس هوبز وديفيد هيوم وجون لوك مروراً بهربرت سبنسر ووصولاً إلى برتراند راسل سنجد أنها كانت ملبية دوماً وبشكل تام لإرادة الواقع السياسي البريطاني، ومؤسسة لعملية تنظير ما كانت الرأسمالية البريطانية تقوم به، وأي قراءة لفلسفة المثالية الفرنسية من باسكال حتى هنري برجسون سنلاحظ ان معينها مرتبط بعمق المصالح الراسمالية الغرنسية، ونفس الأمر عند جون ديوي وتشارلز بيرس وسائر فلاسفة البراجماتيزم وصولاً إلى المنظّرين الأواخر كفرانسيس فوكاياما وصومائيل هتنغتون سيجد المرء أنها إنعكاس صريح لواقع المصالح الأمريكية المدارة من قبل الرأسمالية الأمريكية، كما وأن مطالعة جادة لأفكار مونتسكيو وأوغست كونت وإيميل دوركهايم يجد عمق ارتباطها بالواقع السياسي والاقتصادي الذي شهدته فرنسا من بعد الثورة الفرنسية وحروب نابليون، وأي قراءة لفلاسفة الوجودية الفرنسية ابتداءاً من سارتر مروراً بألبير كامي وسيمون دي بوفوار وأندريه جيد وجاك دريدا ونظرائهم، هذا فضلاً عن جهود مارتين هيدجر سيجد أنها كانت تلبية لأغراض مرحلة ما بعد الحرب العالمية، ولو قدّر أن شفّعنا ذلك بموجتي الحداثة وما بعد الحداثة التي اجتاحت أوربا منذ الثلث الأخير من القرن الماضي سنجد أن الاستدلال بارتباطها بمفاهيم التجارة العالمية وواقع الشركات المتعددة الجنسية ومتطلباتها من أسهل الأمور، وليس من العسير ملاحظة جهود غلاستون باشلر وكلود ليفي شتراوس وفتجنشتين وميشيل فوكو وصولاً إلى يورغن هوبرماس وهي تصب في نفس المجرى الذي أشرنا إليه، ومن الواضح ان أفكار رينيه ديكارت في القيم الأخلاقية والميتافيزيقيا والمنطق الرياضي، وإيمانويل كانت في التنوير والميتافيزيقيا، وجورج هيجل في الديالكتيك والديانة الشعبية وأفكار كارل ماركس في الصراع الطبقي وأفكار هربرت سبنسر في البقاء للأقوى كانت تدخل في صميم الترويج للنظام السياسي والإبقاء على الواقع، وتوجيه أية عملية ثورية باتجاه ترميم هذا الواقع وليس الانتفاض عليه، بالرغم مما يبدو على بعضها بأنها ثورية كما هو حال ماركس وسبنسر، أو مثالية كما هو حال هيجل.
إن وضع الفلسفة الأوربية في هذا الإطار ليس محاولة لإعدامها أو الحكم عليها بالنفي المطلق، فهي كأي فلسفة خرجت من واقع المعاناة البشرية، فيها ما يمكن أن يقبل، وفيها ما يمكن أن يرفض، ولكن من السذاجة بمكان أن نقول أنها كانت تحلل الواقع بناء على أسس منطقية، بقدر ما كانت تحاول العثور على منطق لتبرير الواقع ومماشاته، وعليه فإن استعارة تجارب هؤلاء بالغاً ما بلغت هذه التجارب، ومحاولة تعميمها على واقع أمتنا كما ينادي بذلك مفكرو التغريب يشبه إلى حد بعيد وضع محرك سيارة بدلاً من قلب إنسان، فالمحرك مع قوته لا يصلح لتلبية حاجات جسم الإنسان، فمما لا شك فيه أن واقعنا يختلف عن واقعهم، وبنيتنا الاجتماعية ومقوماتنا الاقتصادية تختلف بالمرة عما كان عليه الوضع في أوربا، مما يستدعي أن ننشأ أدوات التحليل لواقعنا بناء على معطياتنا التي نعيشها ونتعايش معها والتي تنسجم مع بيئتنا الفكرية والوجدانية، ومن نافل القول أن الإستفادة من هذه التجارب غير ضار في أصله ما لم يخالف ثوابتنا التي نريد أن نحافظ عليها ونرعاها، بل يمكن أن نجد الكثير المفيد الذي ينسجم مع بيئتنا الفكرية والوجدانية ومعطياتنا الاجتماعية، ولكن يجب أن نضع في حسابنا دوماً أن البيئة التي أنتجت هذه الأفكار كانت تقيم صومعتها وتعالج علل واقعها على أساس نهب الشعوب الأخرى واستعبادها، وليس أدلّ على ذلك أن انظمة هذه البيئة بقدر حرصها على نظامها الديمقراطي في بلدانها فإنها كانت حريصة في نفس الوقت على إرساء معالم الديكتاتوريات في البلدان المستنزفة كبلداننا، ولذلك حسن الظن بها يكون في قمة البلادة الفكرية والحضارية.
وقد يبدو للبعض إن هؤلاء الفلاسفة معذورون في تنظيرهم للواقع الرأسمالي وتبريره، فهو واقعهم ومجتمعهم الذي يحيون فيه ويعيشون من أجله، ولا غضاضة في أن يفكروا لمصالحهم ويبرروا لواقعهم، ولكن هذا التبرير تعتوره معضلة أساسية إذ أنه يحوّل الفلاسفة الأوربيون إلى سياسيين أكثر مما يثبتهم كفلاسفة، مما ينحو بنا إلى ضمهم ضمن سياق السياسيين الأوربيين، وهو مما لا يرضي هؤلاء قطعاً.
بناء على كل ذلك فإننا بحاجة لقراءة واقعنا بصورة غير مخادعة بالشكل الذي يفضي بنا إلى تشخيص دقيق لما يعتورنا من نواقص ومعوقات، ولما نمتلكه من إمكانات ومقوّمات، ومعها لا بد من تشخيص دقيق لسؤال جوهري يتعلق بالذي نريده بالضبط، فما لم نشخّص ما نريد بدقة، لن نتمكن من تحقيق سبل انقاذ الأمة والخروج بها من سباتها الطويل، شريطة أن لا تخدعنا الآليات التي تريد أن تعيدنا إلى نفس الدوامة التي نريد أن نتخلص منها.
من السهل أن نتخذ الطريقة الفوضوية سبيلاً لإقناع أنفسنا بأننا نحاول أن نخرج من القمقم الذي تم حشرنا في داخله، ويمكن للكثير منا أن يبقوا على أساليب العبث لكي يقنّعوا أنفسهم بالسخرية مما يحيونه، وهي سخرية قد تخفي في داخلها الهروب من الأزمة، أو القبول بمخدرها وأفيونها نتيجة الشعور بالعجز أو الترهل، أو للإعراب عن حالة الرغبة بالتمرد على هذا الواقع بطريقة غير مباشرة، ولكن يجب الحذر من كل ذلك لأن هذه آليات الدوامة نفسها، فلقد كان الأدب العابث الذي أخرجته الفلسفة الأوربية من بعد الحرب العالمية الثانية كما في أدب سارتر وكولن ولسون وألبير كامو ونظرائهم كفيلاً بأن يصرف ملايين الشباب الأوربي والأمريكي إلى أن يتحوّلوا إلى آلات تعمل ضمن ماكنة الدولة، حتى إذا ما أريد لهذه الآلات أن ترتاح لكي تعاود عملها ضمن هذه الماكنة كانت موجات الهيبيز والروك أندرول والبانكس وأمثالها التي عمت أوربا في الستينات والسبعينات من القرن الماضي وصولاً إلى إيقاعات موسيقى البوب والجاز الأمريكية والسامبا الأمريكية البرازيلية التي لا زالت صاخبة ليومنا بمعية الأطنان من المخدرات والمشروبات الروحية المرعية من قبل نفس الماكنة، والمقننة من نفس النظام، هي المجال الذي يقنّع عملية الإستغباء والإستحمار العارمة التي تعمّ هؤلاء، لكي ينسوا استباحة إنسانيتهم ويبقوا مجرد آلات تتحرك من يوم الاثنين إلى الجمعة، فيما يكون يوم السبت والأحد هي الأيام التي يجب ان يغرقوا فيها في داخل أتون ما يراد لهم من عبث، أو أن يحاولوا لعق جراحاتهم التي لم يملكوا وقتهم طوال أيام العمل الأسبوعي للعقها، والهدف دوماً أن تتماهى إنسانيتهم التي تم تجريدها من النظر إلى السماء وتعميق ارتباطها بالأرض، لتكون أسيرة القدر القاسي كما ينظّر إلى ذلك سارتر ونظرائه، مما يدفعهم للعودة إلى نفس الماكنة التي سيتم الحرص عليها وعلى ديمومة حركتها، لأنها هي الوحيدة التي تكفل لهم الاختباء من قسوة القدر، أما الحديث عن النظر إلى قباحة ما يقفون عليه من دماء الشعوب وجراحاتها التي يتسبب به النظام الذي يحمونه ويعملون فيه كآلات فإنه حديث مترف لا وقت لهم بمتابعة فصوله.
وللحديث تتمة تأتي لاحقاً إن شاء الله.
الرابط الخاص بالمقال: http://www.sh-alsagheer.com/index.php?show=news&action=article&id=1003
المقال الأول: http://www.sh-alsagheer.com/index.php?show=news&action=article&id=972
المقال الثاني: http://www.sh-alsagheer.com/index.php?show=news&action=article&id=977
https://telegram.me/buratha