أعيد قولي فأقول، ليحذر الجميع الفخ المنصوب والحفرة التي أمامهم، فلا يقعوا فيها، والا فسيكون الرابح في أي اقتتال بين الأخوة، هو خاسر في حقيقة الأمر، وعندها سيعظ الجميع على أصابعهم ندما {ولات حين مندم}. ( بقلم : نــزار حيدر )
لا يجادل عاقل، على أن وجود الميليشيات المسلحة في أي بلد، يتناقض والديمقراطية، وهي مصدر تهديد دائم لأمن واستقرار البلد، كما أن وجودها علامة الفوضى وضعف الحكومة المركزية وفشلها في توفير الأمن للمواطن، كما أنها دليل الانفلات الأمني، واشارة واضحة الى البطالة والتسيب التعليمي، الذي يجعل من الشباب والمراهقين، المادة الدسمة للتجنيد في صفوفها. بكلمة أخرى وموجزة، انها شر في شر في شر. فالسلاح المنفلت بيد الناس يعرض المواطن للارهاب والقلق الدائم، كما أنه يعرقل عمل مؤسسات الحكومة، ويسلب من مؤسسات المجتمع المدني كل الفرص المتاحة والمتوقعة لبناء البلد على الأسس الدستورية والقانونية المدنية.
ولكل ذلك حول نظام الطاغية الذليل صدام حسين البائد، العراق الى كتل متعددة من الميليشيات الموزعة في طول البلاد وعرضها، وبأسماء ومسميات مختلفة، كان الهدف منها ارعاب الناس وارهابهم، وسطوة زبانيته وأزلامه على أرواح الناس وممتلكاتهم وأعراضهم، وتسخير كل شئ لخدمة القائد الضرورة، فكان السلاح بيد هذه المليشيات، وسائل العبث المفضلة عند النظام للعب بمقدرات البلاد والعباد. انها سياسة الأنظمة الشمولية التي تعسكر المجتمع، لتبقى متمسكة في السلطة.
أما في العراق الجديد، فيلزم أن تختفي كل المظاهر المسلحة من الشارع، وتنحصر مسؤولية استخدام السلاح بيد الحكومة فقط، لأن السلاح المنفلت ليس دليلا على تمتع المواطن بالحرية والأمن، كما أنه ليس دليلا على انشغال الناس بمعاشهم. في العراق الجديد، يجب أن يكون المنطق هو السلاح الوحيد في أيدي الناس (حاكمون ومحكومون) أما السلاح فبيد القانون فقط، ليضرب به على أيدي المجرمين والخارجين عليه، ممن يريدون العبث بأمن الوطن والمواطن. لا نريد السلاح وسيلة الوصول الى السلطة، ولا نريده وسيلة الحوار بين الفرقاء أو بين الناس، ولا نريده مشاعا بيد القتلة والمجرمين، ولا نريده سيفا مسلطا على رقاب المعارضة، لا نريده كل ذلك، انما نريده فقط آخر الوسائل التي يلجأ اليها القانون لفرض ارادته وسيادته على الناس، كل الناس من دون تمييز.
ولكن: ما يؤسف له حقا، هو أن السلاح بقي مشاعا بيد القتلة والارهابيين ومجموعات العنف والارهاب والجماعات التكفيرية وأيتام النظام البائد، يسيطرون به على مناطق شاسعة من العراق بعيدا عن ارادة الحكومة، يقتلون به الناس ويذبحون به ضحاياهم ويرعبون به الأبرياء، ويسعون به الى فرض أجنداتهم (السياسية) من خلال تسخير عناصر توصف بالسياسية الا أنها في حقيقة الأمر مطايا بيد مجموعات العنف والارهاب، يسخرونها كيف ومتى يشاؤون، نجحت لحد الآن في اختراق العملية السياسية، فجلس بعضهم تحت قبة البرلمان، وجلس آخرون على مقاعد الحكومة الجديدة، حتى باتوا مصداق قول الله عز وجل {ويسعون في الارض الفساد}. ظل السلاح بيد نفس الميليشيات التي شكلها النظام البائد، وبالتحالف مع التكفيريين الغرباء القادمين من خلف الحدود، تغذيهم بالسلاح والمال والفتاوى الطائفية التكفيرية والدعم المخابراتي واللوجستي، مجموعات من (رجال دين) طائفيين وأسر حاكمة في المنطقة وأجهزة مخابرات اقليمية ودولية، تتربص بالعراق وشعبه الدوائر، ولا تريد لهم الخير.
لقد فشلت الحكومات العراقية التي تعاقبت على الحكم في بغداد، منذ سقوط الصنم في التاسع من نيسان عام (2003) ولحد الآن، في نزع أسلحة هذه الميليشيات وتفكيك خلاياها الارهابية الخطيرة، وقطع دابرها وتشريد من يقف خلفهم، يدعمهم بكل وسائل الاستمرار وأسباب الديمومة. انها فشلت في حماية أرواح المواطنين وتأمين الاستقرار لهم، فظل العراقي يقتل ويذبح ويقطع رأسه ليل نهار، من دون بصيص أمل، أو أفق في المستوى المنظور. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان فشل الحكومات المتعاقبة في الاقتصاص من قتلة الشعب العراقي وجلاديه، وتحديد خطرهم على المواطن المسكين، والغاء دورهم في الحياة العامة، ان كل ذلك، دفع ببعض ضحايا النظام البائد، الى التفكير في حمل السلاح دفاعا عن النفس والاقتصاص من أزلام النظام البائد وزبانيته.
انها معادلة طبيعية، وان كانت خطأ، فعندما تعجز الحكومة عن حماية الانسان، وتفشل في ابعاد خطر القتلة والمجرمين والارهابيين عن حياة المواطن، وعندما لا تقدر على الالتزام بتعهداتها أمام المواطن العراقي، والتي تقف على رأسها الأمن، يكون السلاح المنفلت هو البديل عند عامة الناس، أما الذين لا يريدون الانجرار الى مصيدة السلاح المنفلت، فتراه يختار الهجرة الى خارج الوطن، تاركا مسقط رأسه وأرض صباه وكل ما يملك من مال وأهل وأصدقاء، ليرحل الى أرض الله الواسعة، حيث البلاد التي تحمله، ولذلك ازداد عدد المهاجرين قسرا ورغما عن العراق بشكل مرعب لم يشهد تاريخ العراق مثيلا له، وفيهم الكثير الكثير جدا من الكفاءات العلمية والاختصاصات النادرة، وكل ذلك بسبب الانفلات الأمني وفشل الحكومات المتعاقبة في حماية أرواحهم، وبذلك يكون العراق قد خسر أفضل ما يملك من الطاقات والكفاءات، القادرة بشكل كبير على اعادة بناء العراق، بسبب استنزاف طاقاته وهجرة العقول عنه.
فمن أين يبدأ الحل يا ترى؟. ان كل من يتحدث اليوم في العراق عن الأمن، يبدأ حديثه عن موضوعة حل الميليشيات، فهو في الحقيقة يتحدث عن النتائج ولا يحاول الاشارة الى الأسباب أبدا. انهم يريدون أن يبدأوا من الضحية، ويتركون الجلاد والقاتل والمجرم، يريدون البدء من سلاح الضحية الذي ما كان يفكر بحمله ابدا اذا ما وفرت له الحكومة الأمن والسلام، فيطالبون الضحية بنزع سلاحه فيما لا زال الجلاد متخم من قمة رأسه الى أخمص قدميه بالسلاح، كما ونوعا، فهل يعقل أن تنجح الخطة بهذه الطريقة؟. بالتاكيد كلا وألف كلا؟. على الحكومة العراقية أولا أن تبدأ مشروعها الأمني وخطتها الأمنية المفترضة والموعودة، من مجموعات القتل والارهاب والعنف، فتنزع أسلحتها وتزيل خطرها المحدق بالعراق والعراقيين، وتقطع دابرها، وتكشف عن كل الجهات الاقليمية والدولية التي تقف وراءها، فاذا شعر الناس بالأمان، بادروا الى وضع أسلحتهم جانبا.
اذ هل يعقل أن تطالب الضحية الخائفة على نفسها والمهددة دائما وأبدا من قبل القتلة والمجرمين، تطالبها بنزع سلاحها، ومن حوله مجموعات ضخمة من القتلة المحترفين والمجرمين المتمرسين، مدججين بالسلاح ؟. هل يعقل أن تطالب الحكومة، ضحايا العنف والارهاب بنزع سلاحهم، قبل أن تنزع الحكومة سلاح القتلة والمجرمين؟ وتوفر لهم الأمن؟. هل يعقل أن تطارد الضحية الذي يريد أن يدافع عن نفسه بسلاح بسيط، وتريد أن تقلع سنه الوحيد، قبل أن تقلع أنياب الارهابيين، وتحطم أسنانهم الحديدية التي تقطر دما عبيطا؟. ان الحكومة العاجزة عن حماية أرواح الناس من عبث الارهابيين، لا يحق لها أن تدعو الضحايا الى عدم الدفاع عن النفس بالامكانات المتاحة، أبدا.
انه من العبث بمكان، ومن السذاجة والبساطة، أن يبادر الضحية الى الكشف عن ظهره، للارهابيين والقتلة، خاصة عندما يشعر بأن الحكومة ذاتها عاجزة عن حمايته، وغير قادرة على نزع سلاح ميليشيات أيتام النظام البائد، والمجموعات التكفيرية. أولم يقل أحد (الارهابيين السياسيين) أنه يرفض دعوة الارهابيين المسلحين لنزع أسلحتهم، قبل أن يطمئن الى أنه بالفعل لاعب حقيقي ومشارك فعلي في العملية السياسية (من دون أن يوضح طبعا ما اذا كان ذلك بصفته ممثلهم في العملية السياسية أم لا) فوصف العلاقة بين مشاركته الحقيقية في العملية السياسية ونزع سلاح الارهابيين، بأنها (صفقة واحدة)؟. انهم يبررون سلاح الارهابيين، بل يدافعون عنه، وينعتونه بـ (المقاومة) وهو الذي لا يستهدف الا العراقيين الأبرياء، ولكنهم يصفون الضحايا، ممن اضطروا لحمل السلاح دفاعا عن النفس، بالميليشيا، ما لهم كيف يحكمون؟ انها، والله، قسمة ضيزا؟.
كلهم يتحدثون عن ميليشيا (شيعية) مزعزمة، ويطالبونها بنزع أسلحتها وحلها، ولكن لا أحد يتحدث عن ميليشيا بعثية صدامية تكفيرية ارهابية موجودة بالفعل، تجوب العراق من أقصاه الى أقصاه، وتعيث فسادا في أرض الرافدين الطاهرة، فلا أحد منهم يطالبها بنزع سلاحها، وتفكيك خلاياها التدميرية الخطيرة. أحد (الارهابيين السياسيين) قدم مشروعا، قال انه مقترح لحل معضلة العراق، تدعو بنوده الى نزع كل سلاح بيد العراقيين، وكذلك نزع سلاح أجهزة الشرطة والحرس الوطني، كما يطلب من القوات متعددة الجنسيات الاعلان عن وقف كل نشاطاتها العسكرية في كل العراق، وبكل أشكالها، وفي المقابل يدعو المشروع الى أن تحتفظ (المقاومة) بكامل سلاحها لحين حل الأزمة التي يمر بها العراق لأنه، كما يقول، خائف على هذه (المقاومة) (....). اذا لم يكن مثل هذا المشروع، محاولة مفضوحة لاعادة النظام الشمولي المباد، فماذا يمكن تسميته؟. والشئ بالشئ يذكر، قيل أن رجلا أراد أن يختبر ذكاء صديقه، فسأله السؤال التالي؛ ما هو الشئ الذي شكله مدور، وغلافه الخارجي أخضر، وفي داخله حب رقي؟.
لست ممن يدافع عن السلاح المنفلت، ولست ممن يرغب في أن يرى، ولو للحظة واحدة، مسلحا غير حكوميا يجوب الشوارع، ولست ممن يتجمل بقطعة سلاح، ولست ممن يتمنى أن يصغ الى لعلعة البارود، ولكنني، في نفس الوقت، لست ممن يرغب في خلط الأوراق، فيقبل بدعوة الضحايا الى وضع سلاحهم، في الوقت الذي يحتفظ فيه الارهابيون بكامل عدتهم وسلاحهم، انها سذاجة ما بعدها سذاجة، واستخفاف خطير بدماء الابرياء وحياتهم، وخديعة خطيرة لتعرية ظهر الناس بلا بديل.
علينا أن لا ننجر الى اعلام الارهابيين ودعاية من يقف وراءهم، ولنحذر الحرب النفسية التي أعلنوها ضد ضحايا النظام البائد، فلا نتحدث عن ميليشيات مزعومة، ونغض الطرف عن مليشيات موجودة بالفعل. اذ كيف يحق لأحد أن يدعو الضحية الى عدم الدفاع عن نفسها، وأخذ الحيطة والحذر، في الوقت الذي يرى فيه الحكومة عاجزة عن حماية الناس وأرواحهم؟ وكيف يرضى عاقل باسقاط سلاح الضحية، ومن حوله كواسر تتحين الفرصة لتنهش بلحمه؟ انها الخيانة والسذاجة والجهل والاستخفاف بأرواح الناس، أليس كذلك؟. ترى، ماذا ستجيب الحكومة العاجزة عن الدفاع عن شعبها، اذا داهم مسلحون ارهابيون محلة ما مثلا، وأوقعوا في أهلها القتل والذبح والتدمير؟ بعيد مطالبة أهلها بنزع سلاحها فورا؟ بل ماذا أجابت الحكومة الناس عندما داهم الارهابيون التكفيريون مقدساتهم في مدينة سامراء، مثلا؟ وهي التي كانت ترفض أن يدافعوا عنها بأنفسهم، بعد أن عجزت عن تأمين الحماية اللازمة لها؟.
لا تكونوا مثاليين، ولا تفكروا بسذاجة، اقطعوا دابر الارهابيين أولا، وانزعوا سلاح التكفيريين وأيتام النظام البائد، وبعدها سيختفي سلاح المدافعين عن أنفسهم من تلقاء نفسه. البداية، اذن، تبدأ من حيث يتواجد سلاح مجموعات العنف والارهاب، ومن النقطة التي يتجمع فيها سلاح ميليشيات أيتام النظام البائد ومجموعات العنف والارهاب وسلاح التكفيريين القتلة الذين يريدون العودة بعقارب الزمن العراقي الى الوراء، وبعدها سأكون شخصيا، الضامن لنزع كل سلاح غير حكومي حمله ضحية من ضحايا النظام البائد للدفاع عن النفس، بعد أن يئس من قدرة الحكومات المتعاقبة على حمايته. ان الخلل لا يكمن في السلاح الذي يحمله المواطن دفاعا عن النفس، وانما في عجز الحكومة في الدفاع عنه، ما يضطره للبحث عن سبل الدفاع الذاتي، على اعتبار أن الأمن هو من أبرز مصاديق فلسفة وجود الحكومة، أية حكومة، في أي بلد في العالم، والا فليذهب الانسان الى الغاب يعيش فيها بين المخلوقات، يدافع عن نفسه بنفسه في اطار قانون الغاب، فالفرق بينه وبين قانون المجتمع هو حماية القانون، فاذا سقط هذا المبرر تحول المجتمع الى غابات متناثرة لا يحكمها قانون، انما سيد الموقف السلاح والمخالب والسكاكين.
نقطة مهمة جدا يجب أن لا نغفل عنها هنا ونحن نتحدث عن السلاح المنفلت في العراق، وهي؛ ان ما يبعث على الأسى والألم، هو أن بعض الضحايا الذين اضطروا لحمل السلاح دفاعا عن النفس، تورطوا بدماء ضحايا آخرين، أي أن بعض السلاح بدأ يخطئ هدفه الحقيقي، فبدلا من أن يكون وسيلة مؤقتة لدفع الضرر عن النفس، كحصانة ضد الارهابيين، واذا به يتحول الى سكين في خاصرة الأخ، وتلك هي الطامة الكبرى. يجب أن ينتبه الجميع الى هذا الأمر، والا تحول السلاح الى أداة لتصفية الحسابات بين الفرقاء، وبين أصحاب الهدف الواحد والمصير الواحد، فتتكرر تجرية الفرقاء الكرد في تسعينات القرن الماضي، فكم قتل السلاح الكردي (المناضل) من أخوة النضال ورفاق الدرب؟ وهو الذي ما حمله المناضلون الكرد الا دفاعا عن أنفسهم ضد سياسات النظام الشمولي العنصري البائد؟.
يجب حصر مهام السلاح في اطار الهدف الذي لجأ اليه المواطن، وهو الدفاع عن النفس، بعد أن استشعر عجز الحكومات المتعاقبة في الدفاع عنه، والمبادرة فورا للتخلي عنه، عندما يشعر المواطن ويلمس نجاعة الخطة الأمنية التي أعلنت عنها الحكومة الجديدة، وليس قبل الانجاز فالكلام كثير، أما الانجاز فقليل أو معدوم، حتى الآن على الأقل، اذ، وبصراحة أقول، أخشى أن يردد المواطن، القول العراقي المأثور{لا حظت بزوجها، ولا تزوجت سيد علي} اذا تخلى عن سلاحه، ولم تف الحكومة بوعودها الأمنية. أعيد قولي فأقول، ليحذر الجميع الفخ المنصوب والحفرة التي أمامهم، فلا يقعوا فيها، والا فسيكون الرابح في أي اقتتال بين الأخوة، هو خاسر في حقيقة الأمر، وعندها سيعظ الجميع على أصابعهم ندما {ولات حين مندم}.
نزار حيدر
https://telegram.me/buratha