استضافت احدى العوائل النجفية مؤخراً احد أبنائها الذين غادروها قبل خمسة وستين عاماً بالتمام والكمال... وبعد رحلة طويلة من النمسا إلى إيران وصل إلى مدينة النجف الاشرف وعمره خمس وثمانون عاماً... بعد أن عاش مترفاً واجه مصاعب الطريق الشاقة فأصابته وعكة صحية في الليل.. وانتظر مضيفوه حتى الصباح لكي يعرضوهعلى اقرب مركز صحي.. فصاحبتهم لأحد المراكز الصحية في المدينة.. وبعد دقائق تم عرضه على الطبيب المختص وإعطاؤه العلاج اللازم اخذ ينظر إلى المستوصف... يتفحص الجدران.. الأجهزة, الصيدلية, أجهزة السونار, شعبة الأسنان.. وخرجنا باتجاه طريق كربلاء- نجف فوجدت من حسن الصدف إن المحطة لا يوجد بها زحام فدخلت كي املأ سيارتي بالوقود ولم أتأخر وعند مشاهدتي له إذا به ينظر بنظر الإعجاب لشوارع المدينة.. اتجهت به إلى دائرة البريد حيث دفعت فاتورة هاتفي.. وبعدها اخذ يسأل بكلمات عربية ممزوجة بالفرنسية.. ما هذه البناية.. وما اسم هذا الشارع..Ah.. le fills aller alalyces .. الأطفال يذهبون للمدرسة... Cest hospital هذه مستشفى.. شوارع تبلط.. عمال كهرباء يعملون.. منظفون في الشوارع... شرطة مرور, سيطرات, بعدها تحسّر كثيراً.. فسألته ما بالك.. قال وسائل الإعلام وما أدراك ما هذه الوسائل الخبيثة التي تضخم وتهول.. سألته تهول وتضخم ماذا؟ فقال إن وسائل الإعلام في أوربا تعتمد على التقارير التي يبثها مراسلوها في العراق وإننا نحترم جداً ما تعرضه هذه القنوات لان الإعلام عندنا له مصداقية والمراسل الصحفي ينقل الواقع بصورة دقيقة, وأما هذه الوسائل فهي تأخذ الأخبار من عراقيين ينقلون لها تقاريرها بعد قتل وخطف الصحفيين الأجانب من قبل المتمردين- حسب تعبيره- ونقل هؤلاء صورة عن العراق تخالف ما شاهدته على ارض الواقع.. وترددت كثيراً ولعدة مرات من المجيء للعراق(والحديث للضيف).وقد حذرني أولادي وأحفادي من الذهاب لمهد صباي .. بكوا كثيراً في المطار.. ظناً منهم إنني سوف لن أعود مرة ثانية إليهم.. فالأخبار الواردة من العراق.. حرب في الشوارع.. لصوص, عصابات, قتل في الشوارع .. سطو مسلح, اختطاف, ناس يموتون من الجوع.. محطات بدون وقود, أعمدة بدون كهرباء.. مستشفيات ومدارس وجامعات مهجورة.. ملثمون يصولون ويجولون.. وسألته والآن ماذا رأيت.. قال: رأيت العكس من ذلك... ودعته على أن التقيه مرة أخرى لكي يحدثني عن ذكرياته لمدينة النجف والكوفة حين غادرها عام 1941 هرباً من الخدمة العسكرية.. ومازال هارباً ! ورشيد عالي الكيلاني وفيصل الأول وعبد الإله وأبو الحسن الاصفهاني وعكد الحمير, والنصاري, وجامع السنة وموكب الخبازين والسقاية.., وخان الهنود والشيلان, وغيرها عندما تتحسن صحته ويهدىء من روعته لما شاهده على ارض الواقع وما تتناقله وسائل الإعلام.. عندها رجعت وفي الطريق تساءلت ولعدة مرات من هم هؤلاء الإعلاميون الذين يضخمون ويهولون..و.. و.. وهل هم عراقيون نعم إنهم عراقيون, هل هم من ازلام صدام.. نعم إنهم بدمهم ولحمهم.. قد أغدق عليهم ولي نعمتهم صدام ما لم يغدقه على غيرهم.. فقطع أراضي مميزة.. ورواتب عالية.. وسفرات خارج العراق.. دورات تدريبية.و.و.. وبعد سقوط النظام وهروب أصحاب الأنواط والأصدقاء.. خرج إعلاميو اللوتوا والتوتو.. من أعضاء نقابة الكسيح عدي وخريجي كلية الإعلام الذي حصرها النظام فقط بأتباعه ومحبيه ومن مواليه وجعلهم الوحيدين من العاملين في هذا المجال.. وعاودوا نشاطهم وعملوا من جديد في هذا المجال المهم والحيوي وأصبحوا مراسلين ومندوبين لهذه الوكالة وتلك القناة وهذه الصحيفة.. فاخذوا ينقلون الصورة التي لا تروق لهم وهم يشاهدون أبناء المقابر الجماعية..وغياهب السجون .. فرحين بما آتاهم بارؤهم بزوال الكابوس.. فأخذوا في البداية يبحثون هنا وهناك, إلى أن وجدوا ضالتهم بعملهم بكافة القنوات الإعلامية على اختلاف أنواعها ومن هنا اخذوا يدسون السم بالعسل, ويقلبون الواقع ويزورون الحقائق للعالم.. ويشوهون الصورة الجديدة المشرقة للعراق الجديد, وعلى مدى ثلاثة أعوام بدأ(الفيلق الثامن) كما اسماه صدام, برسم صورة للعراقي البائس واليائس, ونقلوا عبر وسائلهم فقط أصوات المفخخات وأشلاء الشهداء وسقوط الهاونات وانفجار العبوات واختطاف الناس, تاركين الصورة الثانية من البناء والاعمار وتحسين الحالة الاجتماعية.. وهذا ما رأيناه على ارض الواقع في مدينة أمير المؤمنين(ع) حيث اهتمت كافة وسائل الإعلام بهذه المدينة وسخرت فيها مراسلين لينقلوا لها ما يجري في المدينة.. وبعد تدقيق وتمحيص لبعض هؤلاء المراسلين وجد إن اغلبهم من الذين عملوا مع ولي نعمتهم صدام وولده الكسيح, وإنهم ينفذون ما تطلبه منهم قنواتهم الإعلامية, ذلك برسم الصورة التي تتمناها هذه القنوات, بقلب الوقائع وتزييفها وفي احد المؤتمرات الصحفية التي تحدثت مع البعض منهم, وسألتهم لماذا لا تعكسوا الصورة الثانية للمدينة, قالوا ما هي؟ قلت لهم الصورة الجديدة للمدينة وأخذها بعضاً من مكانتها وألقها وزهوها, كعاصمة للتشيع, كمدينة أهملت وهمشت لعقود من الزمن.. الم تروا الاعمار الذي طال كل شيء إلا رؤوسكم التي أبت أن تتعمر.. فأردف احدهم قائلاً تركنا هذا لكم.. نعم قالها وبكل وقاحة واخذ يضحك وانصرف.. فقلت في قرارة نفسي يمكن أن يكون بعض هؤلاء من المغفلين او المغرر بهم... فأجاب على تساؤلي احد الإعلاميين هل تعلم كم راتب احدهم.. قلت وليكن.. قال يقبضون عشرة أضعاف ما تحصل عليه.. ومن الذي يدفع لهم هذه المبالغ الضخمة؟ قال تلك القنوات التي لا تريد للعراق خيراً.. تلك القنوات التي تريد للمعادلة الظالمة أن تعود.. تلك القنوات التي تسمي شهداءنا بالقتلى.. وتسمي ذباحي أتباع أهل البيت(ع) بالمسلحين أو المقاومين.. !!؟؟ دهشت هل حقاً إن الفيلق الثامن الذي أسسه صدام بين صفوف النجفيين.. دققت جيداً فوجدت حقيقة يصدع لها الرأس ويشيب, هل حقاً إن مدينة الفقهاء والعلماء والشهداء والانتفاضات والمقابر الجماعية قد أنجبت إعلاميين إرهابيين, محال لمدينة أمير المؤمنين أن تنجب ابناءاً عاقين لشرف المدينة وقدسيتها وتضحياتها فضلاً عن مكانتها السامية كعاصمة للمسلمين الشيعة وعاصمة للمهدي( عجل الله فرجه), أن تنجب ابناءاً يدعمون الإرهاب المنظم الذي طال كافة أبناء الشعب العراقي من خلال تقارير مزيفة, بعيداً عن شرف المهنة التي كانت ومازالت نبيلة, أن تنجب ابناءاً يقلبون الوقائع ويشوهون الصورة ويغيبون الإنجازات بلحن واضح لكل ذي بصيرة.. ربما سائل يسأل من الذي يستطيع أن يوقف هؤلاء عند حدهم.. هل هو القانون الذي عطل لأجل غير مسمى ؟ أم القلة القليلة من الإعلاميين الشرفاء؟! أم الإدارة المدنية التي لا زالت في قيلولتها ولا ترى ولا تسمع ولا تقرأ التقارير اليومية والأدهى والأمر من كل هذا وذاك إن بعضاً من الفيلق الثامن من صحفي اللوتو والتوتو اخذوا يشرفون على دورات الصحفيين الشباب في المحافظة وخارجها وهم يصولون ويجولون بلا رقيب, ويستمرون في فرض آليتهم في الكذب وهي طريقتهم منذ كانوا تلاميذ للفكر البعثي القذر, وللأسف الشديد غابت الرجال عن هؤلاء وقديماً قالوا:" من امن العقاب أساء الأدب".
عبد الكريم الحاج صالح الحيدري