عادل عبد المهدي
في نهاية التسعينات كتبت بحثاً مفصلاً (44 صفحة) لاحدى المجلات الفكرية عن فرص انطلاق الشرق والعوائق الجديدة امام الغرب.. واعدت نشره في كتاب صدر لي في 2001 بعنوان "اشكالية الاسلام والحداثة".. اقتطف المعلومات ادناه من فصل منه عن دور السكان والاجور، كواحد من التفاسير لما نشهده من تطورات عنف وارهاب وهجرة وتغير موازين القوى الاقتصادية والسياسية على صعيد عالمي واقليمي ووطني:
[ من سكان العالم، يسكن في افريقيا واسيا 66% و73% في (1970) و(1998) على التوالي، وستكون (77.6) في (2025). معدلات التكاثر السنوي سلبية او ثابتة في الغرب، وهي في آسيا وافريقيا (4,1%) و(6,2%) على التوالي. اصبحت القارة الاوربية هرمة. فدون 15 عاما يمثلون 15%، وفي اسياً 30%.. وفوق 65 عاماً 2,3% في افريقيا و8,5% في اسيا، و15% للقارة العجوز.
سمحت شروط التبادل للغرب بيع سلعه عالمياً باعلى من قيمها، وشراء سلع ارخص من قيمها الحقيقية. وقد شرح "ارجي ايمانويل" في كتابه الشهير "التبادل اللامتكافئ" اليات هذا القانون ونتائجه التاريخية، منتقدا النظريات الكلاسيكية المبررة للاستعمار ولتفسير الفارق بين مستويات الاجور والرفاه بالكلام عن المتوسط الاجتماعي للعمل. استند "ايمانويل" لفرضيات "ريكاردو" ان العمل هو الذي يمثل القيمة الحقيقية للسلع.. وان انخفاض الاجور في الشرق وارتفاعها في الغرب هي عملية "فوق اقتصادية" Extra-economic قسرية تستبطن انتقال القيم الحقيقية من طرف لاخر، ولا علاقة مباشرة لها بقوانين الاقتصاد والسوق.
هذا القانون الذي كان ايجابياً بالمطلق لمصلحة الغرب صار احد مصادر انحباسه النسبي.. فبعد انهيار اسس النظام الاستعماري، ولمواجهة المنافسة الاقتصادية المتزايدة، بدأ الغرب باستيراد العمالة الرخيصة عبر العبيد، ثم العمال المهاجرين. فبنى الواقع الجديد مواقع صلبة في بنى الاقتصاديات، وبدأ يشكل للغرب عنصر عرقلة، وللآخرين عنصر استثمار. فنسبة الاجور في الغرب اضعاف مما في الشرق. وهنا يظهر منحى تاريخي مهم، يتعلق بشروط التبادل وبنى العمالة، نوضحة بالمثال الاتي:
لنفترض ان الغرب قرر استيراد بضاعة بقيمة 20 مليون دولاراً، تكلفه لو صنعها 50 مليون دولاراً مستخدماً 1250 شخصاً. العملية ستوفر له 30 مليون دولاراً. فكلفة العمل في الانتاج لديه 40% من الكلفة الكلية، وهي اكثر 4-10 مرات من الشرق.. ولنفترض ان 30 مليون دولار المتوفرة من الـ50 مليون دولار ستستثمر في السلع العالية التكنولوجية وطنياً، واذا افترضنا ان العمالة المستخدمة بين الصناعة التقليدية والقطاعات التكنولوجية هو 1/3، وعليه ستوفر الـ30 مليون دولار 420 وظيفة تقريباً.. وسيخسر 830 فرصة عمل (1250-420=830). وهنا يتولد قانون مفاده بأن متوسط القيمة المضافة لكل عمل اضافي (عالي التكنولوجيا وضعيف العمالة) في شروط الغرب بات اعلى من متوسط قيمة السلع القابلة للتصدير والمشابهة للسلع التقليدية، بل احياناً العالية التكنولوجيا التي ينتجها الشرق، واقل من متوسط قيمة السلع المتوقف انتاجها بسبب الاستيراد.
قد يوظف الاشخاص الذين طردتهم عملية الاستيراد باجور اقل في مشروع انتاجي، مما سيحرك قانون "ساي": "العرض يولد الطلب".. فتتحقق الفائدة من شروط التبادل لتوفير فرص العمل مجدداً. لكن الامر لن يكون سهلاً، في ظروف المنافسة، بسبب العمالة الرخيصة المستوردة، والمقاومة التي سيبديها المسرَحون انفسهم وبنى الرفاه والنقابات ضد تخفيض الاجور.. لذلك شهدنا انتقال الكثير من الشركات والتكنولوجيا جزئياً او كلياً الى الشرق حيث كلف العمالة منخفضة، واحياناً البيئة الضريبية والاستثمارية افضل، لتوفر لنفسها اموالا طائلة تحتاجها في ظروف المنافسة الشديدة داخل بلدانها وخارجها. هذه المتضادات ستزيد الفوارق الطبقية والعنف الاجتماعي، التي ستضاف إلى مشاكل العمل الاجنبي والهجرة، وهو ما يفقد الاقتصاديات الغربية الكثير من حيويتها السابقة، ويربكها سياسياً].
افرزت هذه المتضادات الكثير من التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تزداد عمقاً، ولعل انتشار الارهاب والعنف والمهاجرين، وتراجع معدلات النمو، وتفكك التوازنات القديمة والانتفاضات والاحتجاجات الواسعة، وخروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي بعضها.
هذه بعض الشروط العالمية الجديدة التي قد تساعدنا، كما ساعدت بلدان شرقية اخرى على التقدم والعودة لركب الحضارة؟ ام سنعتز بعقلية التخلف، ونبقي الفقر والامية والجهل هدفنا؟
https://telegram.me/buratha