مهما كان النقد الايجابي قاسياً، والاستجواب صادقاً وموضوعياً، فانهما يبقيان عنصري بناء وتصحيح.. ولا علاقة للنقد الايجابي والمساءلة بجلد الذات والتسقيط الذي نمارسه من مواقع المسؤولية او الاعلام او الحراك الشعبي.. بل بات لهذا السلوك سوقه اما لاغراض انتخابية او تسقيطية وشخصية او حتى لاغراض تنافسية وتجارية وربحية. فنحن ندمر انفسنا وندمر غيرنا.. فالكل يدمر الكل.. والكل يقف حاجزاً في طريق الكل.. والكل يعرقل الكل.. فنظريات المؤامرة هي السائدة.. واي مشروع او فكرة او خطة هي فاسدة ابتداءاً.. فنحن لا نحسن الظن بغيرنا، بل لا نحسن الظن بانفسنا ولا نثق بقراراتنا ومواقفنا. فكم من رأي حاربناه ووقفنا ضده، وشخص اسقطناه، ثم عندما ضاعت الفرصة او تغيرت الظروف، صرنا نتبناه ونتباهى بالالتزام به. هذا ينطبق في تقويم الشخصيات والقوى والسياسات المطبقة والنقاشات الدستورية او البرلمانية، والاستجوابات او السياسات الاصلاحية او المواقف من القوى الاخرى او من الدول خارجنا.
لا معنى للنقد ان لم تكن وراءه فكرة بناءة ارقى من الفكرة التي يتم انتقادها.. ولا معنى للاستجواب ان لم يكن صادقاً ويستهدف توضيح حقيقة او كشف خلل.. فلا ندمر ما هو ايجابي لوجود بعض السلبيات، او اعتماداً على شبهات او معلومات غير دقيقة. فالنقد والاستجواب يستهدفان ازالة تلك السلبيات لترتقي الاشياء، وهو ما يمنح النقد ايجابيته والاستجواب معناه. اما الجلد الذاتي وجلد الاخرين وتسقيطهم فهو سلوك الضعفاء العاجزين عن تقديم رؤى وبناءات ومشاريع عملية قابلة للتنفيذ، فلا يبقى لديهم سوى اثارة الفوضى وتسفيه وتسقيط كل شيء، بما في ذلك انفسهم.
قد يعتقد البعض ان هذا مجرد سلوك نفسي.. انه في الحقيقة يتجاوز ذلك الى سياسة وسلاح للانتهازيين والضعفاء واصحاب المآرب الانانية الضيقة.. بل الى سياسة وسلاح بيد الاعداء. فكل شيء مشبوه.. وكل شيء فاسد.. ولا توجد مكاسب وايجابيات.. ولا مخلصين واكفاء.. وكل ما نعيشه سلبيات ومظالم.. وكل الشخصيات مرتشية او غير مسؤولة.. ويجب تغيير كل شيء.. وبالتالي يجب اسقاط النظام القائم، لا للاتيان بافضل منه، بل للعودة الى ما هو اسوء واكثر فساداً وظلماً. فاذا لم نعترف بالايجابيات سيكون من المتعذر معالجة السلبيات، وبناء الجديد. لقد حققنا الكثير من المكاسب على الصعد المعنوية والمادية. ومن ينكر ذلك فهو مغالط ليس الا. فها هي الحوزة العلمية والمرجعية تلعب دورها الاساس.. وها نحن نكتب ما نشاء دون خوف او وجل.. وها هو سجل الحكومة بكل ما له وما عليه.. فتُنتقد الحكومة والمسؤولون اشد الانتقادات المبررة وغير المبررة بكل حرية.. وها هي القوى السياسية والاجتماعية بمختلف انتماءاتها وتوجهاتها تمارس فعالياتها، وتتظاهر وتعقد الاجتماعات وتذهب للانتخابات..
وها هي المؤسسات البرلمانية والدستورية الحديثة التجربة، تسعى لتشريع القوانين وتستجوب اعلى المسؤولين، والتي لا يمنع من تطورها سوى قلة الخبرة وعمليات جلد الذات وتضييع وقتها في المهاترات والاتهامات.. وها ان الناس باتوا احراراً في تنقلاتهم وعباداتهم وسفرهم واقامتهم.. وها ان الحرب ضد "داعش" مستمرة في اتجاهاتها الصحيحة عموماً.. وها قد تحسن مستوى معيشة السكان رغم الزيادة العالية للسكان.. فالايجابيات كثيرة ويمكن الاستمرار بالتعداد مطمئنين ان ما نقوله هو عين الحق.. لننطلق لتشخيص مصادر الفوضى والخلل والثغرات الامنية التي ما زالت تحصد ارواح الكثير من ابنائنا.. والسياسات التنموية والاقتصادية المتخبطة التي عجزت لحد الان في تقديم الخدمات الضرورية لشعبنا ووضع البلاد على سكة التطور.. والتخلف الاداري والبيروقراطية والقوانين البالية التي تهدر الاموال والوقت وتنشر الفساد، وتجعل المواطن ذليلاً عاجزاً امام دوائر الدولة ومؤسساتها، وقس على ذلك.
فالمشي على قدمين، والنظر بعينين، والاستماع باذنين، والكلام بلسان صادق لا يعتدي على الاخرين هو ليس سلوك شخصي بل سلوك جمعي لبناء البلاد ومراكمة المكاسب.. بل هو السلوك المضاد لجلد الذات وجلد الاخرين وتسقيطهم، والذي يفتح ثغرة يصعب ردمها امام التهديدات التي تواجهها البلاد.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha