كل الأحزان تنتهي بمرور الزمن إلاّ الحزن على سيد الشهداء وسيد أهل الجنة الإمام الحسين عليه السلام.. ليس فقط لأن مجزرة كربلاء بحق أهل بيت النبوة لانظير لها في التاريخ..وليس فقط لأن القتيل له رمزية هائلة فهو سبط النبي الأكرم (ص) وريحانته وقرّة عينه ووراث رسالته، ولكن الأهم من ذلك هو أن هذا الحزن يقترن بمنظومة قيم إنسانية تفتح في القلب نافذة للأمل بحتمية إنتصار الحق على الباطل وإنتصار الدم على السيف مهما كانت التحديات وقسوة الطغيان. إنه الحزن الكربلائي الذي يُلهب الروح بالحماس للإنتصار للمظلوم والثورة على كل ظلم وعلى كل ظالم ..إنه في الحقيقة حزن عميق الأثر يجعل قلب المؤمن يتوهج بقيم الإباء والإيثار والتضحية والصمود اللانهائي، ولذلك لم يكن مستغربا أن يخشى كل حاكم ظالم إقامة مراسم إحياء عاشوراء الحسين الشهيد، ويخشى حتى مشهد البكاء الجماعي على الحسين، ولم يكن مستغربا كذلك أن يسعى وعاظ السلاطين لتزوير التاريخ وتزييف الوعي من أجل أن يجعلوا الناس تنسى ما يتصل بكربلاء في الذاكرة التاريخية. يقول الرئيس العراقي الراحل جلال الطالباني في إحدى الحوارات الصحفية معه أن معاناة الشيعة في العراق كانت أكبر من معاناة الأكراد وسواهم، فقد منعهم نظام صدام حتى من البكاء على الحسين. نعم، ليس بالأمر المستغرب أن يخشى الطغاة من دموع المظلومين لأنها ستتحول مع مرور الوقت إلى ينبوع ثورة وأمل بولادة عالم بلا طواغيت. ربما يتصور كثيرون أن هناك مبالغة في توصيف تداعيات واقعة كربلاء الملحمية على الذات المسلمة وعلى المخيال الشعبي في كل العصور التالية للواقعة.. أو أن هذا التوصيف يقتصر على خطابات أتباع مدرسة أهل البيت، ولهؤلاء أقول أن ما حدث في يوم عاشوراء على أرض كربلاء له بعد إنساني ملحمي يتجاوز مسألة الخلافات بين المذاهب الإسلامية ..وأعتقد أن كل إنسان صاحب ضمير حي لابد وأن يحزن ويتفاعل عاطفيا مع الواقعة حين يطالع أو يستمع لتفاصيلها، وأكاد أجزم بأن خياله سيعجز عن تصوّر مشاهد أهوالها المؤلمة.. من بوسعه أن يتصوّر، مثلاً، مشهد ترجّل الإمام الحسين عليه السلام عن جواده بعد أن أثخنته الجراح؟.. من بوسعه أن يتصوّر مشهد القتلة وهم يحتزون رأس حفيد النبي الأكرم (ص) ليرفعوه على الرمح في مسيرة سبايا أهل البيت؟..من بوسعه أن يتصوّر حال الأمهات الثواكل ..فزع الأطفال..حرق خيام النساء..الجياد المدمّاة وهي تصهل بالفجيعة؟..إنها مشاهد يرتجف الخيال حقاً من تصورّها. لقد انتجت الواقعة نسقا ثقافيا رمزيا شديد الإلتصاق بالذاكرة الجمعية وله القدرة الفذة على شحن المشاعر وعولمتها على مرّ الأزمنة. في هذا السياق يكفي فقط أن أنقل ما ذكره أحد كبار علماء أهل السنة ( وكل أهل السنة من عشاق الحسين إلاّ من تلوث منهم بالإرهاب والفكر الظلامي) وهو المؤرخ والمُفسر جلال الدين السيوطي (849-911 ه) عن واقعة الطف واستشهاد الإمام الحسين في كتابه الشهير "تاريخ الخلفاء". يقول السيوطي، في الصفحة 165 من كتابه متحدثا عن ما جرى بعد واقعة الطف في العاشر من محرم الحرام: (.. ولما قُتل الحسين مكثت الدنيا سبعة أيام والشمس على الحيطان كالملاحف المعصفرة والكواكب يضرب بعضها بعضا، وكان قتله يوم عاشوراء وكُسفت الشمس ذلك اليوم واحمرّت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله، ثم لازالت الحمرة تُرى فيها بعد ذلك اليوم ولم تكن تُرى فيها من قبل). وهكذا نجد أن الخطابات التي تناولت المعركة الأقصر عمراً في تاريخ البشرية تشحن المخيال الشعبي بتصورات في غاية السمو والهيبة عن شهادة الإمام الحسين وكأن كل ما في الكون توشح بالحداد تفجعا من أجله..وكأن (كل نهر يسير في جنازة الحسين) على حد تعبير الشاعر العربي المعاصر أدونيس. إن أهمية النص الذي أورده السيوطي تكمن في استنتاج أن الحزن المتجدد لمقتل الإمام الحسين واصحابه في كربلاء كان ظاهرة اجتماعية تشمل جميع أطياف المجتمع الإسلامي، وبالتالي يمكن القول أن ما ترسّخ في الذاكرة الإسلامية، أو (المخيال الشعبي) في التعابير المعاصرة، من تفجع وحزن على مصرع الإمام الحسين في كربلاء ليس نتاج مدونات مذهبية ولا يمكن اعتباره محاولة من قبل أتباع أهل البيت لصناعة ذاكرة متمايزة عن المسلمين من أتباع المذاهب الأخرى. على أن الفكرة الجوهرية التي لابد من دراستها بموضوعية وعمق هي أنه بقدر ما يجدّد المخيال الأحزان ويمنحها قدسية مشتقة من رمزية البطل الشهيد، نجده يجدّد الأمل في الوقت ذاته بعالم ما بعد الشهادة، لأن النسق الرمزي ذاته حوّل دم الشهيد إلى بشارة سرمدية تلتحم معها الذات الحزينة في تماهٍ يجعل من واقعة الطف ذخيرة أمل لكل إنسان مقهور ولكل ثائر لا يجد من ينصره.
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha