محمد الكعبي||
السياسة كغيرها من العلوم تحكمها قوانين وقواعد وأعراف و... ، ولها مناهج علمية لابد من مراعاتها، لكي يعرف الفاعل السياسي أين ومتى وكيف يتحرك، وبأي منهج يسير، والا كانت مخرجاته فوضوية وعبثية نتيجة عدم ضبط القواعد والتعامل معها على اساس علمي.
الجهل بتلك القواعد يؤدي إلى خلل في الاداء، وخصوصاً في عمل الحكومة التي لم تفرض سيطرتها على البلد لاسباب كثيرة ومنها عدم وقوفها على تفكير خصومها، فالعراق يعج بالاحزاب والتكتلات والجهات الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية، فضلا عن التنوع الديني والثقافي والعرقي والقومي، وتحيط به دول عربية وغير عربية وسنية وشيعية وعلمانية واسلامية، ومنها من هو مع المشروع الغربي وآخر مع الشرقي، مما انتج زحام في المفاهيم وتقاطع في المصالح وتباين في المناهج المتبعة، مما يجعل الفاعل السياسي يحتاج إلى كثير من الشجاعة والاقدام والصبر و الخبرة والاستعانة بمستشارين حاذقين ووطنيين مع الدعم الجماهيري.
علينا فهم بعض القواعد السياسية والوقوف عليها ولو باختصار لتكون عوناً لنا لنعرف من خلالها كيف نتعامل ونتعاطى مع الآخر، ومن تلك القواعد هي قاعدة التدافع، حيث ينقسم الصراع السياسي بين الفرقاء إلى قسمين رئيسين وهما:
الاول: الصراع التنافسي: بمعنى أن كل طرف يسعى لتحقيق مكاسب معينة ممكن التوافق عليها مع الآخر، أي وجود حلول توافقية واتفاقات وشراكة بين المتنافسين تُرضي جميع الاطراف ولو بنسب معينة وان كانت متفاوتة حسب الظروف والامكانات والقوة التي يملكها كل طرف، لتكون النتيجة مرضية للجميع وهذا ايضا يسمى ب( التدافع التنافسي أو المرضي، التوافق ، الشراكة، التفاهم...) بمعنى حصول كل الاطراف لمكاسب مرضية، أي الحصول على نسب مقبولة وان كانت بطريق غير مباشر.
الثاني: الصراع الصفري: وهو محاولة كل طرف انهاء وافناء الطرف الآخر، وسحقه تماماً أو اقصائه عن المنافسة، إما ماديا أو معنويا، يعني( أما انا والا فلا)، أي لابد ان يكون هناك طرف واحد منتصر والاخر مهزوم منكسر ، كما حصل في اليمن قبل الاتحاد.
عدم التفريق ومعرفة وتحديد نوع الصراع يوقع في أزمات قاتلة، مثلا أن الطرف (أ)يعتقد إن صراعه مع الطرف (ب) هو صراع تنافسي فيعد العدة والاستعداد ويتعاطا وفق نظرية التنافس، بينما الطرف (ب) يعمل بمنهج التصفير، وهذا الاختلاف يؤدي إلى نتائج كارثية، ينبغي الوقوف على المنهج المتبع عند اطراف النزاع، ليتم تحديد الاسلوب المناسب لكل منهم، وخصوصا في القضايا المصيرية والا ستكون النتيجة مدمرة كما في العراق من حيث أن بعض الاطراف تتعامل بحسن نية وبمنهج التنافس و الشراكة، بينما الاخر يتعامل بمنهج التصفير مما جعل الشرخ كبير.
ليس بالظرورة أن يكون التصفير قتل وانهاء الطرف الاخر، بل له مستويات وطرق من قبيل التهميش ، الاحتواء ، الإبعاد ، الانطواء ، جعل الخصم يتخلى عن أفكاره ومعتقداته وأهدافه وغيرها، أي جعل الخصم غير فاعل سياسياً، و تنازله عن حقوقه ومكتسباته، نعم قد تصل في بعض الاحيان إلى انهاء الخصم تماماً بقتل أو سجن أو تهجير.
وهناك من يعمل وفق قاعدة (عليّ وعلى أعدائي) بمعنى أنه اذا استشعر الخسارة فلا يرضى الا بحرق الجميع، كما في قصة (شمشون ودليلة)، وهناك من يعمل بعقلية (لو العب لو أخرب الملعب) وهذا ما يجري اليوم، عندما لا يحصل طرف ما على مكتسبات يقوم بالتخريب وتعطيل الحياة العامة وغيرها من الاساليب الخسيسة، مما يضطر البعض لمنحه بعض المكاسب السياسية أو المالية لضمان سكوته.
يجب على الفاعل السياسي وخصوصاً الحكومة أن تعي حجم المشكلة والتعامل معها بجدية، ومواجهة ظاهرة التصفير تحتاج إلى مقدمات ضرورية من قبيل القوة والمال والمعرفة، ان النظام السياسي أو لنقل الحكومة التي تريد ان تتعامل مع خصومها الذين ينهجون منهج التصفير معها، تحتاج إلى ركائز منها القوة لتتمكن من بسط نفوذها ومحافظتها على مكانتها ومكتسباتها من الضياع، والمال لتتمكن من مواجهة خصومها لتمرير ما تريد وأحتوائهم، والمعرفة أي إيجاد رجال قادرة على ادارة الدولة من خلال البحث والتنقيب والوقوف على مجريات الاحداث وما يفكر به الآخرون ووضع الحلول الناجعة، لتتمكن من فرض سلطتها وتحجيم خصوم الداخل واحتوائهم، لتسطيع من فرض مصلحة العراق على الخارج، وينبغي تقوية وتطوير واستثمار مصادر القوة في بلد يمتلك من الطاقات البشرية والعلمية والاقتصادية قل نظيرها في العالم، ليتمكن من تحقيق مشروع الدولة والا فلا.
ينبغي على الفاعل السياسي المبادرة وبذل الجهد للحلول السلمية والدبلوماسية وتحكيم لغة العقل ونبذ العنف، والتفاهم على حلول ترضي الجميع ليتمكن من تحويل الصراع إلى تعاون وشراكة، والحكيم من حوّل الاعداء إلى اصدقاء، يقول ونستون تشرشل: ليس هناك صداقة دائمة أو عداء دائم، هناك مصالح دائمة.
بسبب صراع الاحزاب والكتل حول المناصب والمغانم, فتح المجال للتدخلات الخارجية وتحكمها بالقرار العراقي، فضلا عن وجود اجندات خارجية متمثله بأشخاص وكتل في الداخل العراقي، حيث أصبح العراق ساحة لتصفية الحسابات والصراعات العالمية، وبعض الاحزاب والشخصيات تتعامل بسياسة المحاور حتى أصبحت جزء منها وادخلت نفسها في نفق مظلم، مع أنها ليست كفء لها، بل لا نجازف ان قلنا انها الاضعف والافقر بهذه المعادلة، نتيجة فقدانها المقومات المطلوبة لقيادة البلد، مما افقد الدولة هيبتها واضعف مؤسساتها، وبروز حالة الا دولة.
إن الاختلاف والتباين حالة طبيعية بين الناس، ينبغي التعامل معها بمنطق التنافس الاخلاقي وفق الاستحقاقات الواقعية، وتعزيز المشتركات التي تجمع أبناء البلد من دين ولغة وثقافة وتأريخ ومصير مشترك لأنقاذ ما يمكن أنقاذه.
اغلب الجهات السياسية تتعامل بمنهج تصفيري وان اعلنت انها تتعامل بمنهج تنافسي، وهذا واضح من خلال ما تقوم به من تعطيل وتسويف القوانين والمشاريع التي فيها مصلحة البلد، بل أن أي عمل اصلاحي أو خدمي يصطدم بحواجز ومعوقات وعراقيل كثيرة لتأخيره و تعطيله، حتى وصل الحال ببعض الجهات المتصارعة بتخريب المشاريع وتعطيلها وتدميرها وتهديد العاملين فيها، لكي لايكون منجز لجهة معينة، وهذا قمة الانحطاط والخسة والدونية.
يحاول الخصوم أبعاد منافسيهم عن أي منجز وان كان على حساب المصلحة العامة، ويسعى البعض لتسجيل نقاط الضعف على خصومه لابتزازه أو احراجه سياسياً أو قانونياً أو جماهيرياً، ويتجلى هذا الصراع واضحاً قريب الانتخابات وبين الحكومة ومنافسيها، من قبيل أن أي عمل تقوم به يواجه العرقلة والتخريب والمعارضة.
وما نشاهده من عمليات القتل والاختطاف والترويع والتهديد والتسقيط الا نموذج حي للصراع التدميري الذي يعيشه الخصوم والذين لايعون لغة الشراكة والتفاهم والتنافس الشريف وفق الاستحقاقات.
تتحدد طبيعة التنافس ونوعه وفقاً لمعطيات حقيقية يرسمها الواقع الخارجي، حيث يفرض نوع الصراع على باقي الاطراف من يملك موازين القدرة والامكانات الاكثر كأن تكون، عسكرية، بشرية، سياسية، دينية، اجتماعية، اقتصادية، بل حتى اعلامياً، حيث يلعب الاعلام دوراً كبيراً في تغيير المعادلات السياسية لأنه يتحكم بفكر وقناعات الجماعات ويوجهها حسب مايريد، ومن يملك الوسائل الاقوى والاكثر تطوراً هو من يحدد نوع الصراع ويفرضه على خصومه.
يتحتم تقديم مصلحة البلد وخدمة أبنائه وأن يكون التنافس بشرف، لأن التأريخ يكتب، ولنتعظ بمن سبقونا، ولا ننسى محكمة الله تعالى العادلة التي لا تضيع فيها الحقوق، وكم سيعيش الانسان فلابد أن يموت، والاحمق(من باع آخرته بدنيا غيره فهو من أخسر الخاسرين) فكيف بمن يدعي الاسلام؟