د. علي المؤمن ||
ظاهرة مشاركة الشيعة، كقوة محلية منظمة، في قيادة الدول والحكومات، الى جانب السنة، هي ظاهرة جديدة، باستثناء التجارب الإيرانية التقليدية. وقد بدأت هذه الظاهرة بعد العام 1980، وكان لبنان نقطة التحول الأولى. صحيح أن مشاركة الشيعة في مؤسسات الدولة اللبنانية، بعنوانهم الطائفي، يعود الى ثلاثينات القرن الماضي، وذلك في إطار النظام السياسي اللبناني الطائفي ومحاصصاته، إلّا أنها كانت مشاركة فردية أو عائلية، وتحت عناوين الأحزاب المسيحية أو السنية غالباً، وليس في إطار مشروع شيعي، ولكن دخول حركة أمل وحزب الله المعترك الحكومي حوّل عنوان هذه المشاركة الى المشروع الشيعي الحقيقي المنظم ذي الطابع المذهبي الإسلامي، أسوة بباقي الطوائف اللبنائية التي تمارس العمل الحكومي بمشاريعها الطائفية وأحزابها السياسية. وبالتدريج تحوّل الشيعة في لبنان من طائفة مهمشة ضعيفة متفرقة، يهيمن عليها الإقطاع الاجتماعي والسياسي والمالي الشيعي العائلي، الى القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأولى في لبنان منذ مطلع الألفية الثالثة، ومن ورائهم الدعم الإيراني المباشر. وتعود جذور هذا الصعود الى ثلاثة مشاريع رئيسة: المشروع التأسيسي التنموي الشامل للسيد موسى الصدر، والمشروع التغييري الخاص لحزب الدعوة الإسلامية، ومشروع حزب الله بعد العام 1982.
وفي اذربيجان، برزت بدايات هذه المشاركة بعد انهيار الإتحاد السوفيتي واستقلال اذربيجان في العام 1992، وتحول التيار الاسلامي الشيعي، في غضون سنة واحدة، الى القوة الثانية بعد التيار الشيوعي الذي أعاد بناء نفسه على أفكار جديدة، قومية ليبرالية علمانية، كما أعاد سيطرته على الدولة ولايزال. ورغم أن العناصر البشرية للتيار العلماني الحاكم في آذربيجان هم من الشيعة (وراثياً)، إلّا أنهم لايرتبطون بالمذهب بأي رابط وجداني أو اجتماعي أو ثقافي أو ديني، على العكس من التيار الإسلامي الذي يطمح الى استعادة آذربيجان الشيعية استحقاقها من الحضور الديني المذهبي الطبيعي. ورغم التدخل التركي القوي في الشأن الاذربيجاني بذريعة القرابة القومية، وهي قرابة غير واقعية؛ لأن القومية الآذرية ليست قومية تركية، بل هي جزء من العرقية الميدية الإيرانية، إلّا أن حقيقة النفوذ التركي تقوم على قاعدة حماية النظام العلماني ودعم الأقلية السنية الآذربيجانية، للحيلولة دون عودة آذربيجان دولة إسلامية شيعية، كما كانت قبل اقتطاع روسيا لها من ايران في الأعوام 1821 ـــ 1828. وهو الهدف الإسرائيلي نفسه؛ إذ يعمل النفوذ الإسرائيلي القوي في آذربيجان على تحويل البلد الى قاعدة ضد الجارة الجنوبية إيران، والحيلولة دون استثمار إيران نفوذها الايديولوجي الطبيعي في آذربيجان. وبالتالي؛ فإن التحالف الثلاثي بين النظام الآذربيجاني وتركيا وإسرائيل، هدفه منع النهوض الايديولوجي الشيعي في البلاد، والذي يمثل أكثريته السكانية (75 بالمائة من عدد السكان).
واندفع شيعة أفغانستان نحو المشاركة في الحكومة ومؤسسات الدولة، بصورة منظمة، وكقوة سياسية إسلامية متميزة، بعد سقوط الحكم الشيوعي في العام 1992، عقب نضال طويل متواصل ضد مثلث القهر والتهميش، والتي تتمثل أضلاعه بالأنظمة الطائفية الملكية، ثم النظام الشيوعي والاحتلال السوفيتي، ثم مرحلة سيطرة الجماعات الوهابية التكفيرية. ومن خلال نفوذها في أفغانستان، فرضت ايران على حلفائها السنة أن يكون للشيعة حضوراً ثابتاً وحقيقياً في سلطات الدولة، تتناسب ونسبتهم السكانية؛ إذ احتفظ الشيعة بعد العام 2001 بمنصب نائب رئيس الجمهورية وعدد من الوزراء وأعضاء مجلس النواب والقضاة، رغم المعارضة الشديدة للسعودية وباكستان والقوى الوهابية والطائفية المحلية. وبذلك حقق شيعة أفغانستان المهمشون، ماكان بالنسبة لهم مجرد أحلام ممنوعة قبل ذلك التاريخ.
ومثلت مشاركة شيعة العراق في قيادة الدولة والحكومة، بعد العام 2003، منعطفاً كبيراً في تاريخ الشيعة، بل صدمة تاريخية متفردة؛ إذ ظل شيعة العراق طيلة القرون السابقة، وتحديداً منذ سقوط الدولة الصفوية في ايران، محكومون من نظام سياسي تقوده الأقلية السنية العربية التي لاتزيد نسبتها على 16 بالمائة من عدد سكان العراق، رغم كون الشيعة يمثلون الأكثرية السكانية في البلاد (حوالي 65 بالمائة من عدد سكان العراق وفق احصاءات العام 1990). في حين احتفظ الشيعة بعد العام 2003 بأهم مناصب الدولة، بما يتناسب ونسبتهم السكانية، في إطار نظام سياسي ديمقراطي تعددي، خلف النظام العراقي الطائفي العتيد. ولم تكن مشاركة الشيعة هذه شبيهة بالمشاركات الفردية لبعض الشيعة في مناصب الدولة أو في إطار الأحزاب السنية قبل ذلك التاريخ، بل بصفتهم المذهبية السياسية، وفي إطار قواهم الإسلامية السياسية المنظمة ، كحزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى الإسلامي العراقي والتيار الصدري وغيرها. ورغم مايعتري هذه المشاركة من إشكاليات واتهامات وشبهات؛ إلّا أن مانتحدث عنه هو أصل المشاركة وتشريعاتها، وليس الأداء؛ إذ أن الأداء والتنظيمات والأشخاص يتغيرون بمرور الزمن، ولكن يبقى أصل مبدأ المشاركة، الذي ترى القوى الشيعية الإسلامية العراقية في المحافظة عليه واجباً مصيرياً ووجودياً. وقد مارست إيران ومرجعية النجف دوراً أساسياً في التأسيس لهذه المشاركة ودعمها والمحافظة عليها.
وفي سوريا؛ حدث انقلاب في موازين القوى الإقليمية والمحلية بعد شن الحرب على النظام السوري بعد العام 2011 من القوى الطائفية الإقليمية، ودخول سوريا رسمياً في المحور الإيراني، أي انتقال العلاقة من حالة التحالف بين البلدين الى حالة التبني الإيراني الكامل للنظام السوري، ومنع ايران سقوطه بكل الوسائل. وقد سمح هذا الواقع بتحول شيعة سوريا الى قوة سياسية وقتالية مؤثرة الى جانب علويي سوريا الحاكمين، الأمر الذي خلق واقعاً مذهبياً جديداً في النظام السياسي، دفع بعض شيعة سوريا الى مواقع متقدمة في القوات المسلحة والحكومة والمؤسسة الدينية.
ومثلما كان المنعطف العراقي بعد العام 2003 صادماً للتاريخ وللأنظمة والجماعات الطائفية؛ فإن ماحدث في اليمن من تحول سياسي كبير بعد العام 2015 من خلال سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيون) على العاصمة صنعاء والسلطة في اليمن؛ شكل منعطفاً صادماً هو الآخر. صحيح أن جماعة أنصار الله هي جماعة شيعية زيدية وليست إثنا عشرية بالأساس؛ إلّا أن عوامل مختلفة، بينها التبني الإيراني للجماعة، وتصاعد نفوذ اليمنيين الشيعة الإثنا عشرية داخل الجماعة، إضافة الى العامل التاريخي الأساسي المتمثل بطائفية النظام السياسي في اليمن ودعمه للجماعات الوهابية ضد الشيعة الزيدية، وتدخل النظام السعودي المباشر لدعم تحركات النظام والقبائل والجماعات الوهابية المسلحة للقضاء على حراك الزيديين؛ دفع القادة الزيديين للتحالف مع الإثنا عشرية وإيران وبعض القوى الشيعية العراقية واللبنانية؛ مما أعطى دفعاً قوياً للواقع الشيعي في اليمن ومشاركة عناصره في مراكز القرار السياسي والعسكري.
هذه التجارب الخمس المهمة للقوى السياسية الشيعية، في لبنان وأفغانستان والعراق وسوريا واليمن، والتي أخرجت أنظمة هذه البلدان من معسكر الأنظمة الطائفية الموغلة في تهميش الشيعة وقمعهم، الى معسكر الأنظمة السياسية المحايدة مذهبياً؛ قلبت موازين المعادلة الطائفية السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وتحولت الى مصدر رئيس لقوة النظام الاجتماعي الديني الشيعي. هذا الانقلاب في المعادلة الطائفية السياسية؛ دفع الأنظمة الطائفية في المنطقة والجماعات الطائفية المحلية، الى شن حروب شاملة ضد تجارب المشاركة الشيعية هذه، وضد القوى السياسية الشيعية التي تتصدرها، وضد ايران الداعمة لها، بمختلف الذرائع الطائفية والسياسية والدعائية، وصولاً الى دفع الجماعات التكفيرية والقومية المسلحة للقيام بأعمال العنف والتفجير المروعة، فضلاً عن التخريب السياسي والتشويه الإعلامي.
ـــــــــــ
https://telegram.me/buratha