يميز بعض الدارسين والباحثين بين علمانية فكرية وثقافية وبين علمانية سياسية ،ويريدون بالاولى انها معنية بالحقيقة والمنهج وانها لاتؤمن بحقيقة مطلقة وانما نسبية ، فيما يعنون بالعلمانية السياسية ،انها تلك التي تفصل الدين عن اي تأثير في الدولة والنظام السياسي ،فلاتنظر الى دين ومذهب الحاكم وهوية نظام الحكم وترفض خضوع القوانين للمحددات الدينية وتتبنى قيم وقوانين انتجها العقل الانساني المعاصر واصبحت مصنفة ضمن قيم وقوانين ومفاهيم ومنظورات عصر الحداثة ومابعد الحداثة .ونموذجها في ذلك الدول الحديثة القائمة بمجتمعاتها الديناميكية وحرياتها وقوانينها وسلامها الداخلي وعطائها المتواصل. بأزاء هذه الرؤية وقف الاسلاميون موقف المدافع عن (الخصوصية )الاسلامية والرؤية الحضارية المتكونة منها ،فالاسلام لديه (نظام سياسي اسلامي) و(مذهب اقتصادي) ونظرية للمعرفة ، وفلسفة للحقوق ومنظومة قيم ، وبالاجمال فالفكر الاسلامي ليس قاصرا عن تأسيس دول معاصرة ، حديثة النظم ،قادرة على مجاراة دول العلمانية المعاصرة ،لكنها تتمسك بقيمها السماوية وتشريعاتها الدينية . بسبب غلبة ذهنية الصراع والنظر الى الاختلاف من منظور صدامي ميال الى الحسم العنيف ،خسرنا في العراق مائة عام من عمر الدولة الوطنية (الحديثة) ولم يحسم تيار بعينه (المعركة) حسما نهائيا، كما حسمت في الغرب بين سلطة الكهنوت المسيحي وسلطة الدولة ،ولم تعد مشكلتهم الاجتماعية -السياسية ،علاقة الدين بالدولة ،وليس من وظيفة الدولة التدخل في الشأن الديني ،فكلاهما له حقل اشتغاله الخاص ، قد يقتربان وقد يبتعدان ، غير ان الدين لايعود مظلة للمواطنة والحقوق والواجبات والعمل السياسي ،بل الوطن والدستور والقانون والنظام العام والمصلحة المشتركة . كلف الصراع على السلطة وقيادة الدولة والمجتمع العراق ملايين الضحايا واهدر الموارد والفرص ومايزال ،ولم يدر حوار عقلاني بناء بين التيار العلماني والتيار الاسلامي ينهي الشكوك المتبادلة ويضع حدا لصراع فكري -ايديولوجي -سياسي استنزف المجتمع والدولة ، وقسّم الجمهور وانهك العقول حد اليأس ،وبقي كل تيار يتحين الفرصة لتاكيد هيمنته وغلبته بدعوى انه الاصح والاقرب الى مصالح الشعب والدولة . ان استمرار الاستقطاب الثنائي والقطيعة بين التيارين ،وتقدم او تراجع احدهما شعبيا واعلاميا وثقافيا ،لن ينه المشكلة في العراق ،ولايعني انتصارا نهائيا لاحدهما على الاخر ،فالمشكلة عندنا ،تتمظهر بشكل صراع فكري مفاهيمي ، صراع مدارس (فلسفية) ومناهج ورؤى ، وهو في جوهره صراع سياسي يستخدم الفكر ونماذجه ويوظف كل الوسائل وادوات القهر الدعائي للفوز بهذه المعركة ، لكن التباعد في الاهداف ليس كبيرا ،والمشتركات كثيرة الى الحد الذي يمكن الاتفاق عليها لعبور محنة طالت كثيرا وتنذر بعواقب خطيرة .فهناك اصول لاينبغي عبورها بحال من الاحوال ،وهي الوطن وسلامته ،والانسان وكرامته ،والسيادة واستحقاقاتها ،والمصالح وضروراتها ،والتنمية الشاملة ومتطلباتها ،والقانون والزاماته ،والمؤسسات وفاعليتها . البناء على المشترك ونبذ الخطاب التبخيسي الدعائي ليس وصفة مؤقتة لعبور مرحلة ،انما هو جزء من مشروع للبناء ينهي خطاب الثنائيات المدمر الذي لم ينتج شيئا ، ليست مشكلة المواطن العادي الان ولا الامس ،من يحكم ؟ ومن يقود ؟ واي شعار يسود ؟ المواطن يريد حرية وخبزا وسكنا وامنا واطمئنانا بالمستقبل ، ونوعية حياة لايحس فيها بالغبن والحرمان النسبي ، من يحقق له ذلك يكون ابن زمانه والاقرب اليه والممثل الحقيقي له .
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha